تشرين الاول - الجمعة 13/09/2000 عبادة
علي(ع)
|
قد
يحسب البعض عندما يريد الدخول في منهاج امير
المؤمنين (ع) العبادي للوهلة الاولى ان الفارق
بين عبادة امير المؤمنين وعبادة غيره مجرد
فارق كمي يمتاز عليه السلام فيه عن غيره ببضع
ركعات في الصلاة او بضعة ايام من الصوم او
بتسبيحات وأوراد يداوم عليها دون الاخرين..
الا ان المطلع ولو على جزء يسير من عبادة عليّ
عليه السلام يدرك وبشكل واضح ان الفارق في
نوعية العمل الذي تتجلى فيه العبادة بأبهى
صورها.
ان الاساس الذي يجب ان تبتني عليه العبادة
هو القرب من الله تعالى.. وهذا ما لا يمكن ان
يحصل الا من خلال المعرفة، وهو الذي عبر عنه
عليه السلام عندما سئل: هل رأيت ربك؟ فقال
عليه السلام: وكيف اعبد ربا لم اره. قيل: وكيف
ذلك؟ فقال عليه السلام: لم تره العيون بملاحظة
الابصار وانما رأته القلوب بحقائق الايمان.
وعن هذا فالذي يريد ان يسلك في منهاج امير
المؤمنين عليه السلام ـ تصورا ـ عليه ان يجد
السير في محاولة منه لمعرفة الله تعالى لتصبح
العبادة ـ في نظر العرف ـ عبادة حقيقية يذوب
فيها العابد في المعبود، ولكي نتصور كيف كانت
المعرفة عند امير المؤمنين عليه السلام نأتي
الى حديث الرسول الاعظم صلى الله عليه واله
وسلم المعروف لامير المعروف(ع):
" يا علي ما عرف الله الا أنا وانت وما
عرفني الا الله وانت وما عرفك الا الله وأنا".
وما نريده في هذا الحيز من هذا الحديث
الشريف هو الشق المتعلق بمعرفة امير المؤمنين
عليه السلام بالله تعالى حيث نكتشف عنوان
الله الذي يجعل العبادة عبادة بالمعنى الصحيح..
وان كنا عاجزين عن فهم مكنون ذلك السر.
وقد ورد عن اهل بيت العصمة عليهم السلام:
المعروف على قدر المعرفة.. فليس هناك في ميزان
الله تعالى معروف ـ سواء كان عباديا بالمعنى
المتعارف ام لا ـ من دون معرفة، واذا كان
لامير المؤمنين عليه السلام ميزة على غيره
فهي ليست الترقي بالعمل العبادي الى القمة
فحسب، بل في تحويل كل عمل الى عمل عبادي يكون
الله تعالى هو المراقب فيه ولا احد سواه..
فالمحافظة على حقوق الاخرين عبادة والحكم
بالعدل بين الناس عبادة، واخذ الحق للمظلوم
من الظالم عبادة.. والمسح على رأس اليتيم
عبادة.. وضربة عليّ يوم الخندق عبادة لا تقف
امامها عبادات الانسان والجن الى يوم القيامة..
وصبر امير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة
النبي صلي الله عليه وآله وسلم وما جرى من
فجائع.. عبادة ايضا..
فالمسألة ليست متعلقة بأعمال معينة يعيش
فيها المرء مع الله تعالى لحظات معينة لا تلبث
ان تنتهي، بل هي نظرة الى الوجود بأكمله، لا
يرى امير المؤمنين عليه السلام فيها غير الله
تعالى كما عبّر هو عن هذه الحقيقة بقوله:
"ما رأيت شيئا الا ورأيت الله قبله
وبعده ومعه وفيه"، فهو يرى الله تعالى الذي
كوّن هذا الشيء، ويرى الله الذي يرث هذا الشيء..
ويرى الله الذي يرعى بلطفه وكرمه هذا الشيء..
ويرى عظمة الله تعالى في ذلك الشيء.. واذا كان
الامر كذلك على مستوى المعرفة القلبية عند
امير المؤمنين عليه السلام ـ حيث تبتني
العبادة على تلك المعرفة اليقينية ـ فيا ترى
كيف كانت صلاة عليّ وصيام عليّ ومختلف عبادات
عليّ صلوات الله عليه ـ وهي التي لا تختلف
عنده عليه السلام بين وقت واخر.. وبين مكان
واخر ـ وقد ورد عن سليمان بن المغيرة عن امه
قالت: "سألت ام سعيد (جارية لامير المؤمنين
عليه السلام) عن صلاة عليّ في شهر رمضان فقالت:
"رمضان وشوال سواء يحيي الليل كله".
وكان عليه السلام اذا حضر وقت الصلاة تلون
وتزلزل فقيل له ما لك؟ فيقول: جاء وقت امانة
عرضها الله تعالى على السماوات والارض
والجبال فأبين ان يحملنها وحملها الانسان على
ضعفه فلا ادري احسن اذا حملت ام لا؟
ويروي عبد الأعلى عن نوف البكالي قال:
بت ليلة عند امير المؤمنين عليه السلام
فكان يصلي الليل كله ويخرج ساعة بعد ساعة
فينظر الى السماء ويتلو القرآن، فمر بي بعد
هدوء من الليل فقال يا نوف: اراقد انت ام رامق؟
فقلت، بل رامق رمقك ببصري يا امير
المؤمنين.
قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا..
الراغبين في الاخرة.. اولئك الذين اتخذوا
الارض بساطا وترابها فراشا وماءها طيبا
والقرآن دثارا والدعاء شعارا وقرضوا من
الدنيا تقريضا على منهاج عيسى بن مريم".
ان الذي يريد امير المؤمنين عليه السلام
ايقاظه في النفوس هو تذكر الله تعالى، واذا لم
يستطع الواحد منا ان يستحي من الله او
يشكره على الطريقة التي كان علي عليه السلام
ينتهجها.. فلا بد من استحضار الخوف منه عز وجل..
ولقد اوضح هو عليه السلام الطريقتين فهو يقول
عن نفسه:
الهي ما عبدتك خوفا من عقابك (او نارك) ولا
طمعا في ثوابك (او جنتك) ولكن وجدتك اهلا
للعبادة فعبدتك".
ويقول: "ان قوما عبدوا الله رغبة فتلك
عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك
عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك
عبادة الاحرار".
ولا يريد عليه السلام ان يهزم الصنفين
الاولين ولكنه يريد بيان عظمة الصنف الثالث
الذي كان عليه السلام زعيما له بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم.
وهو عليه السلام يقول عن الطريقة الثانية:
وما اصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في
غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب اخبارها،
وحفرة لو زيد في فسحتها واوسعت يدا حافرها
لاضغطها الحجر والمدر وسد فرجها التراب
المتراكم، وانما هي نفسي اروضها بالتقوى
لتأتي آمنة يوم الخوف الاكبر.
ونختم هذه الكلمات بما يشير اليه عروة بن
الزبير في حديث له عن ابي الدرداء قال: شهدت
علي بن ابي طالب بشويحطات النجار (مكان في
المدينة) وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه
واستتر بمغيلات النخل (النخل الوارف الظلال)
فافتقدته، وبعد عن مكانه فقلت: ألحق بمنزله،
فاذا انا بصوت حزين ونغم شجي وهو يقول: الهي كم
من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من
جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، الهي ان طال في
عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي فما انا مؤمل
غير غفرانك ولا انا براجٍ غير رضوانك.
قال: فشغلني الصوت واقتفيت الاثر فاذا هو
علي بن ابي طالب(ع) بعينه فاستترت له واخملت
الحركة فركع ركعات في جوف الليل الغامر ثم فرغ
الى الدعاء والبكاء والبث والشكوى فكان مما
ناجى به الله تعالى ان قال:
"الهي افكر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي
ثم اذكر العظيم من اخذك فتعظم عليّ بليتي".
ثم قال: "آه ان انا قرأت في الصحف سيئة
انا ناسيها وانت محصيها فتقول خذوه فيا له من
مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته ولا
يرحمه الملأ اذا اذن فيه بالنداء". ثم قال:
"آه من نار تنضج الاكباد والكلى، آه من نار
نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى".
قال ابو الدرداء: ثم امعن في البكاء فلم
اسمع له حسا ولا حركة فقلت فغلب عليه النوم
لطول السهر اوقظه لصلاة الفجر فأتيته فاذا هو
كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك وزويته فلم
ينزوِ.. فقلت انا لله وانا اليه راجعون مات
والله علي بن ابي طالب، فأتيت مبادرا انعاه
اليهم فقالت فاطمة عليه السلام: "يا ابا
الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟ فأخبرتها
الخبر.. فقالت هي والله يا ابا الدرداء الغشية
التي تأخذه من خشية الله".
ثم اتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر
اليّ وانا ابكي فقال: مما بكاؤك يا ابا
الدرداء؟ فقلت: مما اراك تنزله بنفسك.
فقال عليه السلام يا ابا الدرداء فكيف لو
رأيتني ودعي بي الى الحساب وايقن اهل الجرائم
بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية
فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد اسلمني
الاحباء ورفضني اهل الدنيا لكنت اشد رحمة لي
بين يدي من لا تخفى عليه خافية".
فقال ابو الدرداء: "فوالله ما رأيت ذلك
لاحد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم".
هذا غيض من فيض، والا فليس هناك من يستطيع
الاحاطة ببحر امير المؤمنين عليه السلام
الزاخر الذي نتلهى على ضفافه كما الطفل يلهو
فينقل يديه من حصاة الى حصاة دون ان يفكر يوما
بعبوره البحر.
الشيخ محمد خاتون
|