د. شفيق المصري لـ"الانتقاد":
ما حصل في جنين جريمة ابادة ومن صلاحية محكمة الجزاء الدولية الدائمة النظر فيها

طرح رفض "اسرائيل" لقرار مجلس الامن الدولي استقبال لجنة لتقصي الحقائق في جنين ثم حل الامين العام للامم المتحدة كوفي انان هذه اللجنة اسئلة عدة عن دور المجلس  والجمعية العامة في مثل هذه الحالات، وخصوصا ان ما ارتكبته قوات الاحتلال في جنين وغيرها من المدن الفلسطينية يعد من جرائم الحرب التي تستوجب المعاقبة. وهذا اثار بدوره مسألة مدى  صلاحية محكمة الجزاء الدولية الدائمة، التي من المقرر ان تباشر اعمالها في شهر تموز/يوليو القادم، النظر في هذه الجرائم. هذه الاسئلة ومواضيع اخرى طرحناها على الاستاذ في القانون الدولي الدكتور شفيق المصري. 

 

ـ إزاء رفض "اسرائيل" للجنة تقصي الحقائق وبالتالي حلها ماذا يتعين وفق ميثاق الأمم المتحدة أن يفعله مجلس الأمن والجمعية العامة في مواجهة اي طرف يعرقل قرار دولي؟

ـ ليست هذه هي المرّة الأولى التي تعترض فيها "إسرائيل" على التعامل مع لجان التحقيق وتقصِّي الحقائق التي يكون مجلس الأمن قد شكلها، فقد سبق لها أن رفضت مثل هذه اللجان سواء في ما يتعلق بمجزرة الحرم الإبراهيمي في الماضي أو في ما يتعلق في لجنة كان شكلها مجلس الأمن بالنسبة لوضع المسجد الأقصى وحفر نفق تحته أو محاولة الحفر.

المشكلة الأساسية في لجان تقصّي الحقائق أو التحقيق هي في الواقع أنها تشكل بموجب قرار مستند إلى الفصل السادس دائماً، وهذه القرارات التي يصدرها مجلس الامن صحيح أنها ملزمة في المبدأ إلاَّ أن تنفيذها يتوقف على موافقة الدولة المعنية، فإذا رفضت هذه الدولة مثل هذا القرار وما قد يتضمنه فإن المجلس يكون له خيار من ثلاثة:

 إمَّا أن يؤكد القرار ذاته بالاستناد إلى الفصل ذاته أي على نفس مستوى القرار الأول المُتخذ ويبقى في هذه الحالة غير ملزم إلاَّ إذا قبلته الدولة، وإمَّا أن يصعِّد قراره إلى مستوى الفصل السابع حيث تصبح آلية هذا القرار واجبة التنفيذ لأن الفصل السابع لا يستند إلى موافقة الدولة، وإنما يجب تنفيذه تلقائياً، أو أن يغفل القرار وما فيه من مضامين.

فمجلس الأمن في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لم يصدر أي قرار مستند إلى الفصل السابع إلاَّ قراري طلب الهدنة عام 1948 وقرار تصديق الهدنة عام 49 بين العرب و"إسرائيل" فيما عدا ذلك فكل القرارات التي يصدرها مجلس الامن تابعة للفصل السادس, يعني انها غير نافذة إلاَّ بموافقة الدولة المعنية.

وبالنسبة إلى لجنة تقصي الحقائق الأخيرة التي وافق عليها القرار 1405 فالجديد في هذه اللجنة أن المجلس لم يؤلفها مباشرة من قِبَلِهِ، إنما ورد في النص أنه "يؤيد موقف الأمين العام من أجل الوصول إلى حقائق أكيدة حول موضوع جنين في تشكيل لجنة تقصِّي الحقائق". هنا مجلس الأمن أيّد موقف الأمين العام في تشكيل لجنة من قبل الأمين العام، فلم تشكَّل اللجنة مباشرة من قبل المجلس، وثانياً لم يُعطَ لهذه اللجنة أي صفة مباشرة في علاقتها مع المجلس لأن اللجنة في هذه الحالة فيما لو أُتيح لها أن تعمل كانت ستجمع حقائق ترفعها إلى الأمين العام الذي سيرفع بدوره تقريره إلى المجلس، ومن ثم يمكن للاخير أن يقرر ما إذا كان سيعطي هذه المعلومات أي صفة إلزامية بموجب قراره أم لا. الذي حصل أن الأمين العام ألَّف لجنة ورفضتها "إسرائيل" فألغى الأمين العام اللجنة وكان مجلس الأمن غير مسؤول عن العمليتين.

ـ إذاً ما المقصود من تشكيل هذه اللجنة؟

كان لا بد لمجلس الأمن إزاء الضغط الإعلامي والعالمي وإزاء الجرائم وتحديداً جريمة جنين، ومن أجل امتصاص نقمة الرأي العام والالتفاف حول تقارير هيئات حكومية أو غير حكومية دولية ترعى حماية حقوق الإنسان، كان لا بد ربما لأسباب سياسية من تشكيل هذه اللجنة لتخفيف النقمة التي أُثيرت مع مجزرة جنين. ولكن الاخراج منذ البدء كان ضعيفاً كما قلت من أجل أن تتشكل آلية بتصرف الأمين العام من دون أن يكون مجلس الأمن مسؤولاً مباشراً عنها.

ـ ما الفرق بين لجنة تقصي الحقائق ولجنة التحقيق؟

الفرق في الأساس بين لجنة تحقيق ولجنة تقصي حقائق أن لجنة التحقيق تكون غالباً ذات صلاحيات أوسع لأنها تتضمن تحقيقاً وليس فقط مجرد جمع حقائق. التحقيق يتناول الأشخاص والحيثيات والظروف والنتائج وقد يخلُص ببعض التوصيات. كما ان  التحقيق يستدعي ويستجوب أشخاصا مسؤولين أو مُتهمين في مسؤولياتهم عن القيام بعمليات عسكرية. وفي حالة المجازر التحقيق أوسع طبعاً. اما تقصي الحقائق فتكتفي فقط بجمع المعلومات وعرضها للمصدر الذي يطلبها، فهذا في المبدأ الفرق. ولكن لجان التحقيق قد تتخذ أشكالا عديدة، مثلاً لجنة المفتشين في العراق التي بدأت منذ العام 1991 هنا تكمن الفروقات أنها تقصِّي حقائق وتحقيق، وهناك استنتاجات ولديها عمل، والأهم من ذلك كله ان هذه اللجان سواء كانت مفتشين او غيرها تستند إلى الفصل السابع، يعني أنها ملزمة بصرف النظر عن رأي العراق فيها، وعندما يعترض العراق على أيِّ منها تضاعف العقوبة عليه بالحجم وفي الوقت أيضاً.

ـ هل تستطيع الجمعية العامة أن تحل محل مجلس الأمن في هذه الحالة وفقاً لقرار التوحد من أجل السلم؟

ـ قانونيا الجمعية العامة وفق المادة 12 من ميثاق الأمم المتحدة لا يحق لها أن تتولَّى أي مسألة تتعلق بالامن والسلم الدوليين ما دام مجلس الأمن يقوم بمعالجة هذه المسألة إلاّ في حال توافر ثلاث شروط مسبقة يمكن لها ذلك. اولاً: إذا طلب مجلس الأمن ذلك من الجمعية العامة. والشرط الثاني ذو شقين وهو المستند إلى قرار التوحد من أجل السلام: الشق الأول أن يكون مجلس الأمن معطلاً، لا يستطيع أن يتخذ أي قرار لأي سبب. طبعاً القرار يذكر لأي سبب ولكن السبب الأساسي هو "الفيتو" المتبادل. والشق الثاني أن تكون الحالة تستدعي تدخل الجمعية العامة لأن الحالة تشكل خطراً قائماً على السلم والأمن الدوليين، في هذه الحالات فقط يمكن للجمعية العامة أن تتولى العملية باسم مجلس الامن أو أن تحل محله. وإذا لم تتوافر هذه الشروط لا يحق للجمعية العامة مثل ذلك، ولكن أن يتخذ مجلس الأمن قراراً مستنداً إلى الفصل السادس، وليس إلى السابع لا تستطيع الجمعية العامة أن تقرر العكس، يمكن لها في جلسة استثنائية أن تطلب من مجلس الأمن معالجة الموضوع لكنها لا تستطيع أن تلزم المجلس باللجوء إلى الفصل السابع في الوقت الذي يكون فيه المجلس قد قرر الاستناد إلى الفصل السادس.

ـ في حديث صحفي قلت ان قرارات مجلس الأمن الأخيرة اسقطت الصفة الاحتلالية عن "إسرائيل"، ما هي خطورة هذا الأمر؟

ـ لقد أبديتُ خشية من سلوك مجلس الأمن بعد القرار 1397 لأنني لاحظت منذ صدور ذلك القرار وتأكيداته التي وردت في القرارات 1402 و1403 و1405 أن التوصيف القانوني لـ"إسرائيل" الذي درج مجلس الأمن على اعتماده منذ القرار 237 في 14 حزيران/يونيو 1967 منذ ذلك الحين "إسرائيل" تمثل لمجلس الأمن القوَّة القائمة بالاحتلال، وقد جرى تصنيف الأراضي العربية منذ ذلك الحين على أنها أراضٍ محتلة بما فيها القدس الشرقية، وقد تكرر هذا التوصيف في عدد كبير من القرارات، حتى بعد اتفاق أوسلو الذي كانت معه خشية آنذاك أن تصبح الأرض المحتلة أرضاً متنازعاً عليها بالاستناد إلى ما ورد في اتفاق أوسلو، حتى بعد ذلك التاريخ كان مجلس الأمن قد أصدر قرارات منها القرار المتعلق بمجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1996، وهذا يعني أن اتفاقية جنيف الرابعة  الخاصة بحماية المدنيين الواقعين تحت الإحتلال واجبة التطبيق، وأن على "إسرائيل" أن تحترمها وإلاَّ قد تصبح مسؤولة دولياً عن أية أعمال تخالف هذه الاتفاقية.

ولكن في القرار 1397 وما تلاه من قرارات لم يرد مثل هذا التصنيف وإنما ورد طلب عام بوجوب احترام اتفاقية جنيف الرابعة من دون تحديد، وكأن الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي أصبحا مسؤولين عن مثل هذه الاتفاقية، علماً أن الاتفاقية تعني القوة القائمة بالاحتلال اي "إسرائيل". فالاستغناء عن هذا التوصيف على الرغم من حدّة ووحشية المجازر التي ارتُكبت أمر يثير القلق ويصبح معه تجهيل الفاعل وكأن اتفاقية جنيف لم تعد تستهدف فقط القوة القائمة بالاحتلال، والقرارات الأخيرة التي صدرت قد غيبت الاتفاقية بشكل كامل. وأنا أخشى من تغييب هذه الاتفاقية تملصاً من أحكام دولية تسعى "إسرائيل" اليها ضمن دبلوماسيتها القائمة على فرض صيغ تعاقدية بينها وبين ممثلي الفلسطينيين.

ـ بالنسبة إلى مجزرة جنين، هل تتعتبر جريمة إبادة، وما هي العناصر الضرورية للتمييز بين جرائم الابادة وجرائم الحرب؟

ـ إن ما حصل في جنين هو جريمة إبادة بلا شك، لأن ما حصل هو تدمير مقصود لمجموعة من البشر بسبب إختلافها الديني والعرقي. وتعريف جريمة الإبادة هي تدمير مجموعة من البشر بسبب اختلاف ديني أو عرقي أو حتى سياسي. اما جرائم الحرب فهي التي ترتكب عندما تُخالف القانون الانساني الدولي، أي عندما تخالف اتفاقيات جنيف الأربع التي تطبق في أثناء النزاعات أو أثناء الحرب.. وجرائم الابادة هي التي تتناول قتلاً جماعياً، ليس قتل أشخاص في حياتهم وإنما تدمير هؤلاء الاشخاص وهذا ما حصل في جنين.

وهذه الجرائم لا يمر عليها تقادم الزمن، وهي مدانة وفق القانون الدولي بصرف النظر عن القوانين الداخلية لأيَّة دولة.

ـ هل تستطيع محكمة الجزاء الدولية الدائمة أن تنظر بعد مباشرة أعمالها في مجزرة جنين مع العلم أنه يوجد مادة في قانون المحكمة تنص على عدم اختصاص المحكمة بالنظر إلى الجرائم التي ارتكبت قبل نفاذ نظامها الأساسي أي في تموز/يوليو القادم؟

 الولايات المتحدة مثلاً قبل أن تعلن انسحابها من المحكمة كانت تحاول جاهدة أن تعدِّل في نظام هذه  المحكمة وتحاول أن لا تعطيها أي صلاحية بالنسبة للنظر في الجرائم التي سبقت تشكيلها. وهذا يتعارض مع مبدأ عام أُقرَّ منذ زمن وهو أن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم الابادة وجرائم العدوان لا يمر عليها تقادم الزمن، وبهذا المعنى يبقى من حق المحكمة أن تنظر في أي جريمة حتى تلك التي وقعت قبل صدور المحكمة. وربما لهذا السبب ولأسباب أخرى انسحبت الولايات المتحدة من المحكمة. بالنسبة لجريمة "إسرائيل" في جنين فإنها جريمة ابادة لا تسقط بتقادم الزمن وبالتالي المحكمة صالحة للنظر في هذه الجريمة ولهذا تبدي "إسرائيل" خشيتها منذ اليوم، فهناك اخبار تقول ان "إسرائيل" بدأت تستنفر خبراءها القانونيين لكيفية الالتفاف حول هذه المحكمة في المستقبل خشية من أن تقام دعاوى ضد عسكرييها وسياسييها.

ـ مع وجود تعارض بين القانون الدولي وقانون هذه المحكمة، فأيّهما له الغلبة؟

طبعاً المحكمة هي آلية قضائية، فأحكام القانون الدولي من هذه الناحية مستقرة لجهة عدم تقادم الزمن، وعدم تقادم الزمن وارد في معاهدة مصدق عليها من قبل الدول.

 

ـ "إسرائيل" لم توقع على اتفاقية المحكمة، هل تمتد بهذه الحالة صلاحية المحكمة إلى الاطراف التي لم توقع عليها؟

ـ بالمبدأ والمنطق يُمكن أن لا يسمح للدولة أن تقيم الدعوة إلاَّ إذا كانت موقعة على قانون المحكمة (اتفاق روما) ولكن يجب أن يكون الافراد مسؤولين أمام المحكمة. ولكي لا يسمح بالتملص من آلية تطبيق القانون الدولي يجب أن يُطبق قرار المحكمة على كل الأفراد سواء كانت دولهم موقعة أم لا، هذا محور المنطق.