نارها تحرق الأصدقاء قبل الأعداء:
الحرب بين مساعي الهيمنة الأميركية والتناقضات العالمية الجديدة


فشل واشنطن في إجبار مجلس الأمن على إصدار قرار جديد بالحرب، دفعها الى سحب مشروع القرار واصطناع قمة "لاسور" بهدف تحصيل الشرعية الدولية المفقودة. لكن هذه القمة لم تكن أكثر من مناسبة لبدء العد العكسي للحرب، في وقت تزايدت فيه عزلة بوش وحلفائه على الصعيدين الرسمي والشعبي.

 

الاختلاف شاسع جداً بين البطل التوراتي شمشون والرئيس بوش الذي يحلو له أن يتمثل به في خضم التخيلات التي تترعرع في ذهنه وفي أذهان أصحابه من الأصوليين المعروفين بنزعتهم الصهيونية. فالأول قال من موقعه كأسير "عليَّ وعلى أعدائي يا رب"، أما الثاني فإن جنونه بالعظمة والسيطرة يؤدي به الى تدمير أصدقائه وحتى ذاته قبل من يعتبرهم أعداءه. ذلك ما تقوله بفصاحة صورة رئيس الوزراء الدانماركي الملطخ الوجه والثياب بعصير الطماطم الذي صبه عليه أحد المعترضين على مشاركة الدانمارك في الحرب الأميركية على العراق. وذلك ما تقوله بالفصاحة نفسها تلك اللافتة التي احتلت، في وجه رئيس الوزراء الإسباني، مساحة كبيرة من قاعة البرلمان، وأربكته إرباكاً شديداً وهي تطلب إليه أن يستقيل. وإذا كانت الاستقالة قد فرضت نفسها على رئيس الوزراء التركي عبد الله غول، فإنها تهدد خليفته المتحفز للانضمام الى المعسكر الأميركي، كما تهدد رئيس الوزراء الأوسترالي ونظيريه البرتغالي والإيطالي، وإن كان هذا التهديد لا يرقى الى مستوى التهديد المحيق بأكبر المتحمسين للحرب الأميركية: توني بلير. فقد انفرط عقد الحكومة العمالية التي يرأسها هذا الأخير باستقالة ثلاثة من وزرائه في مقدمتهم روبن كوك، وزير الخارجية السابق ووزير العلاقات مع البرلمان. كما قضى بلير ساعات مضنية في محاولة إقناع مجلس العموم البريطاني بوجاهة موقفه الذي زعق بالاحتياج عليه مئة وخمسة وستون نائباً عمالياً.

 

إنقسام عالمي كبير

ولا يمكن اعتبار بوش نفسه في وضع أفضل بكثير حيث تشير آخر استطلاعات الرأي الى رفض الحرب دون غطاء الشرعية الدولية من قبل 50 في المئة من الأميركيين، كما تشير الى استحالة فوز بوش وحزبه في الانتخابات فيما لو جرت في هذه الساعة. وليست الاستقالات ومجرد انتقال السلطة من حزب حاكم الى حزب معتاد على الحكم هي كل ما يتهدد العدد القليل من الزعماء الذين أيدوا التوجه الأميركي نحو الحرب. فالمواقف الرسمية لفرنسا وألمانيا وروسيا والصين وغيرها ضربت حالة التعاطف مع الولايات المتحدة والتي سادت للحظة في أجواء هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وعادت بعقارب الزمن الى لحظات الانقسام العالمي الكبير الذي نجم عن الشذوذ الأميركي في سياسات التسلح والبيئة والمنظمات الدولية. كما ان التظاهرات التي اجتاحت الشارع الغربي قبل الخامس عشر من شباط/ فبراير وبعده تجاوزت رفض الحرب الى رفض التوجه الامبريالي الأميركي، وهو رفض يأتي كمؤشر على الدور الذي لعبه الملف العراقي في تنمية الحركة العالمية المناهضة للعولمة الأميركية. لا بل إن جميع هذه المواقف قد اغتنت وتعززت، في ظل الإصرار الأميركي على الحرب، بالاعلانات الصريحة الصادرة عن الفاتيكان بإدانة هذا الإصرار باعتباره "جريمة بحق السلام"، وباعتبار الدعاة الى الحرب "يتحملون مسؤولية كبرى أمام الله والتاريخ".

 

قمة العزلة

وقد أسهمت في فرز هذه المواقف بتلك الصورة تطورات الأيام القليلة الماضية، وهي تطورات اتسمت قبل كل شيء بالتعنت الأميركي في محاولة فرض خيار الحرب على مجلس الأمن، ثم في تجاوز المنظمة الدولية ومحاولة تحصيل الشرعية المفقودة عبر قمة الساعة الواحدة التي عقدت في جزيرة لاسور البرتغالية. فبالنسبة لمجلس الأمن الذي خاطبه الرئيس بوش بلغة الانذارات عندما أعطاه مهلة 24 ساعة للخروج بقرار يجيز الحرب، فشلت المساعي الأميركية الهادفة الى كسب الأصوات التسعة اللازمة لإصدار ذلك القرار، وذلك برغم سياسة الترغيب والترهيب التي وصلت الى حدود رشوة بعض الأعضاء غير الدائمين أو ابتزازهم.

كما فشلت تلك المساعي في ثني فرنسا المدعومة من قبل روسيا والصين عن تأكيد عزمها على استخدام حقها في النقض. وقد أجبر ذلك واشنطن على سحب مشروعها لأن سقوطه الحتمي بالتصويت أو بالفيتو كان سيعني المزيد من عزل الولايات المتحدة ونفي الشرعية عن حربها على العراق. وجاءت قمة "لاسور" التي جمعت واشنطن ولندن ومدريد وليشبونة بمثابة محاولة يائسة لتحصيل الشرعية المفتقدة، وفي الوقت نفسه، للتهويل على المنظمة الدولية عبر التشكيل المصطنع لهيئة دولية يمكنها أن تطرح نفسها كهيئة بديلة، وخصوصاً أن الصدام بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة قد تجاوز حدود المصالحة الممكنة.

غير أن قمة "لاسور" التي حرصت واشنطن على تبريرها بعدم قيام مجلس الأمن بـ"واجبه" في دعم حربها على العراق، لم تتمكن من تغطية الفشل الأميركي في مجلس الأمن. وقد عبّر الرأي العام الأميركي نفسه في ازدرائه لهذه القمة من خلال استطلاعات الرأي التي بينت أن الأميركيين يريدون حلفاء كباراً ومنظمات دولية حقيقية تعطي شرعية لحرب حكومتهم على العراق. كما ان اختيار تلك الجزيرة المعزولة التابعة لبلد هامشي كالبرتغال، قياساً الى بلدان حليفة تقليدياً كفرنسا وألمانيا أو حتى كإسبانيا التي أجبرها تطور الأحداث في اللحظة الأخيرة على عدم المشاركة عسكرياً في الحرب، جاء بدوره ليعبر عن عزلة الولايات المتحدة وليضع هذه القمة على لائحة قمم العولمة التي اضطر أصحابها الى عقدها في أماكن نائية كأعالي جبال الألب أو في أصقاع آلاسكا هرباً بها من التظاهرات الشعبية المناهضة التي شهدتها في السنوات الأخيرة عواصم ومدن مثل براغ وغوتبرغ وجنوا وواشنطن وملبورن.

إلا ان قمة "لاسور" التي لم تتمكن من جمع ولو قسماًَ ضئيلاً من الدول الثلاثين التي يعتد كولن باول بدعمها لواشنطن، دون أن يقدم لائحة بأسمائها، برغم كل ما يمنحه ذلك من قوة للموقف الأميركي قد نجحت، خلال الساعة اليتيمة التي استغرقها الاجتماع في أن تكون قمة وضع اللمسات الأخيرة على قرار الحرب التي أعلنت واشنطن أكثر من مرة عن استعدادها للذهاب إليها بمفردها.

كما شكلت مناسبة إضافية لعقد مؤتمرات صحافية كرر فيها الرئيس بوش هجومه على "الدول التي لا تفهم بعد"، مشيراً بذلك الى فرنسا بوجه خاص، حيث عاد وتوجه إليها بالتحدي المباشر عندما قال انها قد "كشفت أوراقها" حين هددت باستخدام حق النقض.

 

نحو الكارثة

وبالطبع، مهدت القمة للمواقف التي عبر عنها كل من كولن باول وجورج بوش والتي اعتبرت بمثابة إعلان فعلي للحرب. ومن هذه المواقف برز الانذار الذي وجهه جورج بوش الى صدام حسين بالتنحي عن الحكم خلال 48 ساعة، وهو الإنذار الذي عاد الناطق باسم البيت الأبيض الى تجاوزه عندما صرح بأن القوات الأميركية ستدخل العراق سواء استجاب صدام للإنذار أم لم يستجب. كما برز أيضاً احتفاظ الرئيس بوش لنفسه بتحديد موعد الهجوم الذي أبقاه غفلاً، بانتظار استجابة العراقيين لنداءاته التي طلب إليهم فيها أن يمتنعوا عن المقاومة وعن إحراق آبار النفط، وأن ينتظروا الجيش الأميركي مدغدغين بأحلام الحرية والديموقراطية والرفاه!

نداءات تعكس خوف الرئيس بوش من مفاجآت غير سعيدة في وقت بدأ فيه الجنود الأميركيون المعبأون منذ أشهر بإظهار الملل والتبرم، كما بدأ فيه المراقبون بالإعراب عن اعتقادهم بأن عدم قدرة الأميركيين على الحسم العسكري بأقصى سرعة ممكنة سيفتح على أميركا أبواباً كارثية على المستويين الاقتصادي والسياسي.

عقيل الشيخ حسين