ارشيف من :آراء وتحليلات

نقطة حبر: سأخرج بعد قليل

نقطة حبر: سأخرج بعد قليل
كتب حسن نعيم
وأخيراً سقطت قصيدة الرثاء الدرويشية التي طالما رثت فلسطين في مهب الرثاء.. القصيدة التي تماهت مع كاتبها ومع موضوعها حتى الذوبان، عانقت صاحبها وتوسدت شاطئ الأبدية ونامت غريبةً بلا وطن, بلا مهاجر ولا حتى منافي تليق بغريب يشكو إليها همومه ويبثها نجواه.. حتى المنفى الذي يحتضن الشاعر كان مستعصيا على صاحب "أوراق الزيتون" و"عاشق من فلسطين" و"العصافير تموت في الجليل "..
لكثرة ما تشابه محمود درويش مع قصيدته ومع قضيته كان صعباً على الفلسطينيين والعرب شارعاً ومهتمين وقع خبر موته, وهل تموت القضية, وفلسطين, والشتات؟
ولكثرة ما تشابه درويش مع نفسه راح في كل مرحلة من مراحل تطوره الشعري ينزع ثيابه الشعرية بما تتضمنه من لغة وأفكار ورؤى، ويرتدي أخرى لائقة بقامته الشعرية السامقة, من دون أن يكون أسيراً للجمهور الذي أحبه وأحب شعره, وأحب فلسطين التي قرأها في شعره، من الاحتلال إلى المنفى إلى المقاومة إلى الاتفاقيات والتواقيع، إلى ما يشبه الدويلة التي ضاعفت شعوره بالخيبة والانكسار.
هكذا تنكر درويش "لسجّل.. أنا عربي".. وللشعر الحماسي الذي عرّفه إلى الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج من دون أن يرف له جفن.. ليس تنكراً للقضية الفلسطينية، وإنما إيماناً منه بشاعريته التي لا يجوز بأي حال من الأحوال الاتكاء على رصيد المقاومة للغرف منها لتأكيد الحضور.
كان محمود درويش يرى أن الهوية هي ما يتشكل في ذات الفرد من أفكار وقيم، وبالتالي ما يتعب في تحصيله لرسم صورته الفاعلة في مداره الاجتماعي والسياسي والثقافي, وليس ما يرثه من منبته وبيئته. وكان يرى في آخر دواوينه أن الشعر اليوم ينبغي أن يكون شعر رؤى وأفكار.. وفي حواريته الطويلة مع الموت في "الجدارية" كان يرى أن الموت ليس أكثر من تبديل عوالم.
سيهرق الكتاب العرب كثيراً من الحبر في غياب محمود درويش.. فيا كتبة الرثاء، خففوا قليلاً واتركوا محمود درويش يرثي نفسه: "سأخرج بعد قليل من تجاعيد وقتي غريباً عن الشام والأندلس..
هذه الأرض ليست سمائي, ولكن هذا المساء مسائي، والمفاتيح لي, والمآذن لي, والمصابيح لي, وأنا لي أيضاً.. أنا آدم الجنتين فقدتهما مرتين.. فاطردوني على مهلٍ, واقتلوني على عجلٍ تحت زيتونتي.. مع لوركا.
الانتقاد/ العدد 1289 ـ 12 آب/أغسطس 2008
2008-08-12