ارشيف من :آراء وتحليلات
نقطة حبر: الناي الذي غادر الغابة

حسن نعيم
ينتظم المكان الروائي في السياق السردي فيمثل الإحساس والشعور، وينطق بالموقف الذي يتدفق مع تيار الشعور في الأعمال الروائية ويعطيها حياة أخرى على الورق موازية لتلك التي في الواقع، ويبدو المكان في كثير من هذه الأعمال كائناً حياً، ينتشر ويتثاءب ويحمل ويقرص ويتنفس، وهو ينشأ من فضاء رمادي غامض يحمل الصقيع والرطوبة، شأن أي إنسان قاس وغريب الأطوار.
تقول الروائية اللبنانية ليلى عسيران في رواية "جسر الحجر": "انفض القتال عن بيروت وتركها مدينة مترنحة تكاد تخلو من الحياة ومن الناس، وبدت كالعاصمة المهجورة تنوء بأنقاضها، تتحرك بدون كهرباء وتحيا بدون مياه، نصف أهاليها مهجرون وعاطلون، والنصف الآخر أناس قابعون في وجود مؤقت، العاصمة متوجعة، وكلها وحدة ووحشة...".
يجسد المكان هنا الحالات، فتبدو كأنها ملموسة، وذلك بلغة بيانية خالية من الإنشائية، وهو بذلك يؤدي وظائف كثيرة يمكنها أن توحي بالغربة والاغتراب الوجداني كما يمكنها أن تمثل عالماً عجيباً سحرياً يدهش ويخيف، أو عالماً وديعاً يوحي بعلاقات أسرية تسودها المحبة والوئام.
فالمدينة التي تتعرض للقصف على سبيل المثال ليست مكاناً محايداً على الإطلاق، إنها شاهد حي على الظلم والإرهاب والهمجية والعدوان. والقرية المستحضرة مكاناً روائياً يهاجره أبناؤه بحثاً عن لقمة العيش تخبرنا عن مأساة الهجرة وتحرضنا على التحسر على العلاقات الانسانية والبيوت المفتوحة للآخر التي تم استبدالها بغابة من الأبنية الجبارة الضاربة رؤوسها في كبد الفضاء.
الوصف بحد ذاته يثير شفقتنا على الإنسان في هذه الأمكنة الذي بات قريب الشبه بالآلة لافتقاده الى الحضن الدافئ، الأمر الذي يزيد من غربته وإحساسه بالضياع وعدم الأمان. ولكن ماذا يفعل من يشعرون أن هذا العالم كله مكان اغتراب؟ وهل يملكون إلا أن يشكوا ويئنوا أنين الناي الذي غادر الغابة؟
الانتقاد/ العدد 1354 ـ 10 تموز/ يوليو 2009