ارشيف من :آراء وتحليلات
عندما تذهب المملكة الى التسوية مرغمة

لم يكن حبر توقيع اتفاق فيينا الشهير حول الملف النووي الايراني قد جفّ حتى هرعت الدبلوماسية الغربية وخصوصا الاوروبية الى طهران، تسّيرها مصالح مختلفة ، الاقتصادية أولها ، حيث وجدت في الاسواق الايرانية هدفا مهما، هذه الاسواق المتعطشة للتبادل التجاري العالمي بعد العقوبات الخانقة التي طالتها لاسباب تتوزع بين البرنامج النووي الايراني والذي شكّل لفترة طويلة موضوع خوف وحذر لدى المجتمع الدولي، وبين الادعاءات المشبوهة بأن ايران تتمدد شيئا فشيئا في الشرق وخصوصا في المجتمع العربي والاسلامي لفرض سيطرتها من خلال مشروع "شيعي فارسي توسعي"...
بالمقابل، كانت تعاني المملكة السعودية، قبل الاتفاق المذكور وخلال مفاوضاته الماراتونية التي ترافقت مع حراك مسلح وحروب ومعارك ألهبت الشرق وما زالت ، تعاني من عقدة سياسية مذهبية مزدوجة تتعلق بالنفوذ الايراني اللافت والذي اساسه اولا: التقدم التكنولوجي العلمي والقوة العسكرية الذاتية الايرانية، وهذا ما تفتقده المملكة وتتكبّد الاموال الطائلة لتعويضه وتأمينه من الغرب الذي يستغّل بشغف هذا المستوى العلمي المتدّني الذي " تتمتع " به المملكة لاسباب واسباب.
وثانيا، دور ايران الريادي في حماية وصيانة الضمير الانساني العربي والاسلامي فيما خصّ القضية الفلسطينية (القضية الام) والمقدسات الاسلامية والصراع التاريخي مع العدو الاسرائيلي وهذا ايضا ما تفتقده المملكة حيث لا مجال الآن لذكر الصفقات المشبوهة والاتصالات السرّية والعلنية مؤخرا وتمرير الخدمات الدنيئة بين المملكة والعدو الاسرائيلي ، وهذا الحراك المسلح والدمويّ ، تلعب المملكة الدور الاساس في تنمّيته وادارته من العراق الى اليمن الى سوريا مع امتداده المحدود الى لبنان والى دول عربية وافريقية اخرى وذلك من خلال ما يلي:
- اعلاميا: تسخّر المملكة وسائلها الاعلامية الفاعلة الرسمية او الخاصة الموجهة (وحيث لا مكان لديها لغير الموجهة اساسا)، ووسائل اعلامية من خارج المملكة وذلك لتوجيه الرأي العام العالمي والعربي بطريقة مسمومة ومضلّلة خدمة لاهدافها المشبوهة في ضرب الانظمة والمجتمعات التي لا تدين بالولاء لصاحب الجلالة وذلك في اليمن وسوريا والعراق ولبنان و مصر ، الى أغلب دول الخليج والدول الافريقية .
الملك السعودي
- ماليا: تخصص موازنة سريّة هائلة لدعم الحركات الارهابية التي تدور اساسا في فلكها من شراء اسلحة وعتاد عسكري متطور وتزويد هذه المجموعات الارهابية بها بطرق خفيّة، الى تأمين مخصصات مالية ورواتب شبه ثابتة لاغلب هؤلاء العناصر وبطريقة دورية منظمة كما لو كانت مسجّلة في نظامها الاداري والوظيفي ومن ضمن هيكليتها الوطنية لقواتها المسلحة، كما وتخصص موازنات سريّة ضخمة لشراء ذمم مسؤولين سياسيين وغير سياسيين شرط ان يدينوا بالولاء للمملكة ويدافعوا عن سياساتها في المحافل كافة ، وقد كانت برقيات ويكيليكس المسرّبة خير دليل على ذلك الأمر الذي لم تنفه المملكة.
- امنيا: تعتبر مهمات وعمليات بعض المجموعات الارهابية بشكل عام من ضمن صلاحية اجهزتها الامنية والمخابراتية حيث توليها العناية والرعاية والتوجيه وذلك بطريقة مباشرة وبطريقة غير مباشرة عن طريق غضّ النظر والتسهيل على معابرها لاغلب العناصر الارهابية السعودية الجنسية والذين يشكلون النسبة الاعلى من ضمن انتحاريي أغلب العمليات الارهابية الدموية، كما وان كوادر هؤلاء الجماعات الارهابية السعوديين هم الانشط في ادارة وتنظيم اعمال هذه المجموعات التكفيرية المتعددة على كافة ساحات التدخل والغليان الارهابي المسلح في الشرق الاوسط وافريقيا وامتدادا الى المسرح الدولي بشكل عام وعملية 11 أيلول وغيرها خير شاهد على ذلك.
- عسكريا: بداية، تجنّبت المملكة وفي اغلب الساحات الملتهبة التدخل العسكري المباشر (مع بعض الاستثناءات في سوريا والعراق عن طريق خبراء عسكريين ورجال مخابرات وذلك لأسباب تتعلق اولا بممارستها الدائمة لسياسة الكذب والعهر عن طريق إعطائها لنفسها صورة مملكة الخير والكرم والسلام من خلال بعض المساعدات والتقديمات التي تطبّل وتزمّر لها، وحيث لا تشكّل بمجملها قسما زهيدا مقارنة مع ما تخصصه من موازنات سرّية لحربها الارهابية الخفية، ولكن لم تستطع حتى النهاية البقاء بعيدة عن التدخل العسكري المباشر، فكان للأزمة اليمنية الداخلية وما رافقها من تطورات دراماتيكية لناحية فضح وعزل عملائها في السلطة تداعيات وتأثيرات على هيبتها وغطرستها أخرجتها عن طورها ودفعت بها للتدخل المباشر عبر "عاصفة الحزم " اولا وما خلفّته من دمار ومآس في ارض اليمن وعلى شعبه، ومن خلال التدخل البري لاحقا عبر انزالات برية وبحرية وجوية ساهمت بشكل مباشر بمساعدة عملائها من عناصر القاعدة وحزب الاصلاح السلفي وقوات الفار هادي لاستعادة السيطرة على مواقع ومراكز مهمة في عدن وفي لحج وغيرها حيث تعّول في ذلك على فرض شروط معينة في التسوية المرتقبة مستغلّة هذا التقدم الميداني المذكور .
هذا الانغماس السعودي المتشّعب في الصراع الدائر في الشرق الاوسط، وبعد أن وصل الى حائط مسدود حيث الفشل في تطويق وعزل النظام السوري وحيث الهزيمة والخيبة مع الوقوع في المستنقع اليمني، وجدت المملكة نفسها مطوقّة بالضغوط الدولية، ضغوط الامم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الانسانية وبالضغوط الداخلية المتمثلة بالخلافات الحادة التي بدأت تظهر بشكل علني داخل الاسرة الحاكمة حول جدوى متابعة هذه الحروب التي تخوضها بالاصالة أو وكالة ، والضغوط الارهابية التي تمثلت بالعمليات الانتحارية التي تنفذها وتتبناها داعش داخل المملكة، وحيث على ما يبدو تنفّذ الاخيرة حربا استباقية ضد الاجهزة الامنية السعودية ، كل ذلك مضافا الى نتائج اتفاق فيينا حول الملف النووي الايراني ، حيث سطع نجم ايران كدولة اقليمية والتي أقنعت الغرب بجدارتها لتكون شريكا فاعلا في ادارة الملفات الاقليمية الحسّاسة ومن ضمنها ملف الارهاب الذي سيطال بشظاياه المملكة واجهزتها، كل ذلك جعلها تبدي استعدادا مشروطا بالظاهر ولكنه جدي وغير مشروط في الحقيقة للذهاب الى تسوية شاملة قد تجرّها لان تدفع اثمانا باهظة عن حسابات حديثة في الشرق الاوسط وعن حسابات قديمة بعض الشيء انما ما زالت مفتوحة لها علاقة بعملية "11 ايلول" الشهيرة .