ارشيف من :آراء وتحليلات
روسيا البوتينية تغيِّر الوجهة الجيو-استراتيجية العالمية (2/2)

عوامل الازمة المالية تتجمع من جديد
بعد ظهور فشل هذا "المخطط الاولي" الغبي لـ"وضع اليد" على روسيا، وقبل ان تنجلي غبار البرجين التجاريين في نيويورك، وغبار الحربين ضد افغانستان والعراق اللتين "لم تحققا اهدافهما" حسب اعتراف القيادة الأميركية، تجمعت من جديد عوامل الازمة المالية في اميركا، وانفجرت سنة 2008، ووضعت الاقتصاد الاميركي والاوروبي كله على حافة الانهيار التام.
خطة "انقاذ جيو-استراتيجي" فاشلة
وهذا ما دفع الاحتكارات الأميركية الكبرى والقيادة اليهودية العالمية لوضع خطة "انقاذ جيو-استراتيجي" كبرى، على غرار خطة اشعال الحرب العالمية الأولى والثانية، تقوم على ما يلي:
أولا ـ زعزعة الاستقرار العالمي، كتمهيد لاعادة رسم خريطة العالم.
ثانيا ـ تفكيك البلدان العربية والإسلامية، كتمهيد لبناء دولة "اسلاموية" كبرى، تتمحور حول تركيا، وتكون معادية لروسيا (تأسيسا على العداء التاريخي التركي ـ الروسي)، ويبدو في الظاهر انها "مستقلة" ولا علاقة للكتلة الغربية بها.
ثالثا ـ العمل بمختلف الاشكال لبناء المنظمات الإرهابية المعادية لروسيا وحلفائها
رابعا ـ شن "الحرب الباردة" من جديد ضد روسيا والسعي لعزلها ومقاطعتها
خامسا ـ اثارة القلاقل والاضطرابات في جميع البلدان السوفياتية السابقة
سادسا ـ احتلال الجزر اليونانية غير المأهولة بواسطة اللاجئين الذين يتغلغل في صفوفهم الدواعش
سابعا ـ تجنيد كل مؤسسات البحث العلمي الأميركية والغربية، ناهيك عن التركية، للطرح العلمي والتاريخي، العنصري واللغوي والثقافي والاجتماعي والديني وأخيرا السياسي، لموضوعة "وحدة الشعوب الطورانية"، وتنسيب التتار والبلغار والبشناق والاكراد والالبان اليها، وذلك كخطوة ضرورية نحو تشكيل "تركيا الكبرى" الأساس البشري والسياسي والعسكري لتكوين الإمبراطورية العظمى
ثامنا ـ التحضير لاثارة نزاعات مسلحة بين الفرس الإيرانيين وغير الفرس في ايران وخارج ايران. وخلال ذلك طرح شعارات "الوحدة الإسلامية"، واضفاء هالة "المحافظة على الوحدة الإسلامية" على تركيا، وتمكينها من التدخل العسكري ضد ايران تحت شعارات محاربة الفرس ومحاربة الشيعة.
تاسعا ـ العمل لتحويل "منظمة مؤتمر الدول الإسلامية" الى حلف دفاعي إسلامي على غرار الناتو، وتتزعمه: الإمبراطورية التركية العظمى
عاشرا ـ دفع الإمبراطورية التركية العظمى، ومن ورائها الحلف الإسلامي العالمي، لاحتلال كامل الأراضي اليونانية والقبرصية (باعتبارها "ارض اجدادنا" كما سبق وقال رجب طيب اردوغان في حملته الانتخابية الرئاسية) ومن ثم ـ وهذا هو الهدف الأعلى: خوض حرب استنزاف طويلة الأمد، بالأسلحة الكلاسيكية غير النووية، ضد روسيا، بحجة "تحرير" الأقلية الإسلامية فيها.
"فيلم أميركي طويل"
وكل ما جرى على الأرض العربية وبعض المناطق الافريقية، منذ اطلاق ما سمي "الربيع العربي" المشؤوم، لم يكن سوى "فيلما أميركيا طويلا" وأجزاء من سيناريو عالمي مركب للوصول الى هذا الهدف.
وقد اعتمد الاستراتيجيون في وضع هذا السيناريو على الحسابات التالية:
ـ1ـ ادراكهم التام ان زمن "توازن الرعب النووي" بين اميركا وروسيا قد ولى الى غير رجعة. فالتكتيك الحربي الذي وضعته روسيا لمواجهة اميركا نوويا قد تغلب على التكتيك الأميركي.
ـ2ـ ان "حلف الناتو" لا يشكل "قيمة مضافة" للقدرات العسكرية الأميركية، بل عبئا عليها. وقيمته بالنسبة لاميركا هي قيمة معنوية ـ سياسية وإعلامية لا اكثر.
ـ3ـ ان الإمبراطورية التركية العتيدة ستكون القوة السياسية ـ الدينية الوحيدة التي تمتلك من الغباء السياسي وجنون السلطة ما قد يسوّغ لها الدخول في حرب ضد روسيا، مهما كانت النتائج، خاصة وان عدد سكانها سيكون أكبر من موسكو.
الا أنه في كل هذا السيناريو كانت الاستراتيجية الاميركية تخدع نفسها تماما وهي ترتكب خطأين فاحشين:
الأول ـ ان روسيا ستصدق ان اميركا تقف على الحياد ولا دخل لها في الإرهاب والحرب المحتملة التركية ـ الروسية، تماما كما كان يراد للرأي العام العالمي، بما فيه السوري والعربي وحتى الروسي، ان يصدق شعارات "سلمية... سلمية" التي اطلقت في بدايات "الربيع العربي" المشؤوم في سوريا.
والثاني ـ ان روسيا ستحافظ، من طرف واحد، على اخلاقياتها ولن تستخدم اسلحتها ضد العدو الذي تختاره، وفي اللحظة التي تختارها، وانها لن تنقل المعركة الى خلف المحيط، الى نيويورك وما وراءها. لذلك فإن الروس لن يسمحوا بالطعن في الظهر مما يعني ان "اللعبة" انكشفت تماما، وان السيناريو كله هو سيناريو أميركي.
تفاهم ضمني أميركي ـ روسي
ويرجح بعض المعلقين الاستنتاج التالي:
ـ خلال الاتصالات الدائمة بين جون كيري وسيرغيي لافروف ابلغ الأخير وزير الخارجية الأميركي ما يلي: ان القيادة الروسية ترى ان كل تركيا من عاليها الى سافلها لا تساوي قدم الطيار الروسي الشهيد، وان اللعبة الأميركية كلها، بداعش وبغير داعش، أصبحت مفضوحة تماما، وانه لا حاجة الى استمرار مسرحية الدمى، ولا حاجة الى حرب استنزاف كلاسيكية مع تركيا، او في سوريا، وان اميركا تتحمل كامل المسؤولية، وانه اذا كان من ضرورة للحرب فلتكن مع اميركا مباشرة، ولتتحمل اميركا النتائج. (وهذا هو مغزى قرار بوتين المفاجئ بسحب القوة العسكرية الروسية صوريا من سوريا).
وقد سافر جون كيري الى موسكو وتأكد بنفسه مما ابلغه إياه لافروف.
وهذا هو ما يفسر لنا التبدلات التي طرأت على التعامل الاميركي مع ازمة المنطقة، ولماذا قبلت اميركا أخيرا بتفويض روسيا بحل الازمة السورية خصوصا وازمات المنطقة عموما، ولماذا بدأ كل اتباع اميركا يكتشفون ويدرسون خريطة الطريق الى موسكو.
ولكن طبعا ان اميركا، التي تعلّم العالم على البراغماتية، لا تفعل شيئا بدون ثمن. ويرجح هؤلاء المعلقون انفسهم ان اميركا، بعد ان تأكدت ان كل مخططاتها السابقة قد سقطت وانكشفت، وان روسيا لن تتزحزح لا من سوريا، ولا من الشرق الأوسط ولا خصوصا من شرقي المتوسط، الخزان الجديد للغاز والنفط، فإنها عرضت على روسيا المشاركة مستقبلا في عملية الاستخراج والتسويق، كي يستطيع الكونسورسيوم الأميركي العالمي للنفط ان يحتفظ بمكانته الدولية، والا فإن كل الاقتصاد الأميركي معرض للانهيار والمجتمع الأميركي معرض للتفكك لان الدولة الأميركية تنوء بأكبر دين عام في العالم والدولار الأميركي هو بدون تغطية ذهبية، فاذا انكشف الدولار تنكشف معه كل عورات وكل مقاتل اميركا وتصبح عرضة لان تأكلها حتى جرذان المافيا.
اميركا "تنقلب" على حلفائها التقليديين
قبلا كانت اميركا قد وعدت حلفاءها الإقليميين والدوليين (دول الخليج، إسرائيل، تركيا والاتحاد الأوروبي) بمنحهم حصصا في استثمار غاز ونفط شرقي المتوسط، مقابل مساعدتها في مخطط عزل وضرب واسقاط روسيا بدون حرب نووية.
الان تغير الوضع تماما، وصار الهم الأكبر لاميركا هو "استرضاء" روسيا، ولو على حساب أولئك الحلفاء.
واذا اخذنا بالمنطق المافياوي الأميركي، الذي خبرته روسيا، فإن روسيا لن تعطي من حصتها هي الى حلفاء اميركا وشركائها في الجريمة. بل ان على اميركا ان تعطيهم من حصتها.
كما انها ـ أي روسيا ـ لن تقبل اي عرض أميركي بتطبيق قاعدة المثالثة (اميركا ـ روسيا ـ حلفاء اميركا) لان هذا يعني ان روسيا تصبح شريكا، بشكل مباشر او غير مباشر، في تشكيل داعش واخواتها، وكل الاضرار التي لحقت وتلحق بشعوب المنطقة على ايدي المنظمات الإرهابية التي بادرت المخابرات الأميركية لتشكيلها، والتعاون مع حلفائها في تمويلها وتدريبها وتسليحها وتسهيل حركتها من اجل هدف رئيس هو محاربة روسيا. والقيادة الروسية ليست طبعا على درجة من الغباء ان تتآمر مع اميركا ضد بلدها.
علما ان العبء الأكبر، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، لمواجهة الإرهاب والسعي لايجاد حلول سياسية للازمة السورية خاصة والإقليمية عامة، قد وقع على عاتق روسيا، في حين ان ما سمي "التحالف الدولي" و"التحالف العربي" لمكافحة الإرهاب بزعامة اميركا والسعودية، والمؤتمرات التي عقدت في تركيا والسعودية وفرنسا وغيرها، لم تكن سوى لذر الرماد في العيون والتغطية الفعلية على نشاطات المنظمات الإرهابية وتشريع وجودها.
روسيا تمثل الضمان الدولي الرئيسي لحقوق الشعوب
وهذا العبء الذي تحملته وتستمر في تحمله روسيا هو برهان ملموس على ان روسيا تمثل الضمان الدولي الرئيسي على ان الدول الإقليمية (غير المرضي عنها من قبل اميركا) وذات الحقوق الطبيعية في استثمار غاز ونفط شرقي المتوسط (سوريا، لبنان، فلسطين، مصر، قبرص واليونان) ستحصل على حقوقها الطبيعية وستستطيع مواجهة القرصنة الإسرائيلية والتركية، المدعومة اميركيا، والتي بدأت منذ الان.
نستخلص مما سلف ان اميركا، من ضمن التفاهم والتعاون الإقليمي العام بينها وبين روسيا، أصبحت ملزمة بتقديم حصص لحلفائها من حصتها الخاصة.
والان تقوم اميركا بالضغط على حلفائها من اجل تخفيض حصصهم الى اقصى حد ممكن. وهذا ما يفسر قيام وسائل الاعلام الأميركية، والكثير من المسؤولين الاميركيين، بمن فيهم الرئيس أوباما شخصيا، بتوجيه الانتقادات، القاسية في بعض الأحيان، الى حلفاء اميركا التقليديين. وشملت تلك الانتقادات الاتحاد الأوروبي وتركيا وحتى السعودية.
وفي ظل قنابل الدخان التي تطلقها تلك الانتقادات، فإن المخابرات الأميركية، التي تمسك تماما زمام داعش واخواتها، تعرف كيف تهوّش هذه العصابات وتطلقها على مراحل ضد حلفائها (اليوم تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، وغدا السعودية ودول الخليج).
وخلال ذلك تزعم اميركا انها كانت ضحية التضليل والخداع من قبل حلفائها، وانها انما كانت تدرب وتسلح المعارضة الاسلاموية المعتدلة وغير الإرهابية والساعية الى الإصلاح، وهي ـ أي اميركا ـ تعمل لتصحيح هذا الخطأ وتضم جهودها الى جهود روسيا في مكافحة الإرهاب فعليا على الأرض.