ارشيف من :آراء وتحليلات
كلمات باكستانية .. للمستقبل

كنت قد عزمت بعد كتابة مقال "أكثر شيء في بلدتنا ..الأحزاب"، الذي أضيف على صفحة موقع "العهد" بتاريخ 18 مارس 2016، أن أتجنب التطرق للظاهرة الحزببية، ومأساة العمل السياسي في باكستان، الذي يفتقد لأبسط مقومات النهضة والتنمية السياسية، فضلاً عن تمكن المواءمة بين الإسلامية والوطنية من جهة، والجماهيرية التنظيمية والنخبوية من جهة أخرى.
غير أن جلسة استفزت حُرقة إنساني الجمعي، وحرضت فيَّ الأمل بالغد الموعود ، لأكتب للمستقبل، لا لأحدٍ غيره - فهو الأقدر على إثابتي - عن "الكوميديا السياسية في باكستان"، أو لعلها "تراجيديا" ألبسها التصبر ثوب الكوميديا، لكن بالطبع لا أعدكم بأسطر ملحمية على طريقة العملاق "دانتي" صاحب الملحمة المشهورة "الكوميديا الالهية".
جمعتني إسلام آباد، في السابع من هذا الشهر بصديقين، هما عضوا شورى أحد الأحزاب الباكستانية الإسلامية، التي تصادف انتخاباتها الداخلية في اليومين التاليين للقائي بالصديقين في المكتب المركزي للحزب، فلما سألتهما عن أجواء الانتخابات، لم يكن مفاجئاً بالنسبة لي جوابهما بأن هذه الانتخابات "بروتوكول تنظيمي"، فالنتيجة معروفة سابقاً، بحجة أن فلان أفضل الموجودين لقيادة الحزب العتيد. بكلمة أخرى، "ما في بالميدان غير حديدان".
تبريرٌ سمعته يوماً في احد العواصم العربية، من أحد الأعزاء، تفهمته، لأننا في عاصمة عربية، ومقدراً لموقفه الواقعي، لكن أن أسمعها في الداخل ومن بعض الباكستانيين، فحقاً هذا سرطان الكسل ضرب العقول والنفوس.
لكن ليس هذا ما استفز كلماتي لتنطق على أسطر "العهد"، التي تعلمتُ منها صبياً "الانتقاد" للوفاء لصرخات "إنا على العهد". فما تركني حائراً وأكثر بؤساً من بطل الرواية الفرنسية المشهورة "البؤساء" لفيكتور هيجو، هو الفقر الضارب بجذور الحزب على صعيد:
-الرؤية.
-العزيمة.
-المأسسة.
فقر في الرؤية:
يتجلى هذا الفقر في الرؤية على غير صعيد، كالشكل الذي يُفترض الانضواء تحته والعمل من خلاله، لتحقيق الأهداف المرجوة المُفترض بدورها أن تكون واضحة أيضاً، بشقيها المُعلن والمُضمر، حيث أن الشكل ليس هدفاً بذاته، إنما هو قناة وأداة من أدوات الجماعة - المُجمعة على أمرٍ ما - لتحقيق الهدف.
ولطالما كانت هناك مرونة نسبية في التدرج للوصول للشكل النهائي للجماعة، أو بتعبيرٍ آخر أن الشكل يحمل في داخله بذرة التكامل وطي مراحل الكمال – إن جاز التعبير - فكلما طوت الجماعة هدفا أو مجموعة من الأهداف من المفترض تلقائياً أن تتكيف مع ضروريات المرحلة والأهداف الجديدة وتصب نفسها كجماعة في القالب الأنسب لتحقيق الهدف الجديد، مع ملاحظة إني لا أتكلم هنا عن تغيير القالب كلياً أو نزع لبوسٍ ما والتلبس بشكل جديد، فالكلام ليس بهذه السطحية.
أضف إلى ذلك، من قال بأن أشكال العمل الجماعي والسياسي قوالب مصبوبة يتم استيرادها من الخارج؟ وهنا حتى لا يحدث لغط أو سوء فهم فإن كلامنا بالشكل لا بالأهداف والتوجهات، فقد تتلاقى جماعة ما في وطنٍ ما مع جماعة أو جماعات أو كيان خارج أسوار الوطن بالتوجه العام، كمجموعة الأنهر التي تنبع من مواطن وجبال مختلفة وتصب في بحرٍ واحد، لكن كلامي في مسارات هذه الأنهر التي قد لا توصل بعض الأنهر على صفاء وعذب مائها إلى البحر.
على كلٍ، بعد وقوع "الفاس بالراس"، وكون الشكل (حزب) أصبح متلبساً بهذه الجماعة، فما نوع حزبنا العتيد هذا؟ هل هو حزب كوادر ونخبة؟ أم أنه حزب جماهيري؟ أو حزب يجمع بين الصورتين؟
وإلى ما شاء الله من أسئلة هي بمثابة ألف باء العمل الحزبي والعمل الجماعي، كما هو سقف طموحات الجماعة؟ و... و....
كل ذلك بدوره ينعكس وبالملازمة – وإن حصل نقاش حول نوع الملازمة - على نشاط وحركة وعمل الحزب، بناءً على علاقة الإندكاك بين الرؤية والفعل . ويفسر تخبط سير الجماعة التي وبعد مرور ما يقارب العقد من الزمن على عمرها الحزبي غير واضح لديها أي حزبٍ هم ؟!!!
فقر في العزيمة:
فقدان الرؤية الواضحة وعدم إجماع أغلبية أركان الجماعة على أم المسائل، يفتت بالطبع عزيمة أفراد الجماعة، وشيئاً فشيئاً يبدأ هؤلاء الأفراد بفقدان حس الانتماء لهذا الكيان الجمعي الذي من المفترض أن يحتضن جماعة من الناس على أساس وحدة الهدف والعدو والأمل.
لكن عندما يصبح الهدف والطموح هو الحفاظ على المصلحة الشخصية، وذلك لمجموعة أسباب أهمها الشعور بالابتعاد عن كيان ترهل صبياً، فيصبح كل ما يربط الأفراد (حتى المؤسسين منهم) بهذا الكيان هو خيط المنفعة الشخصية المتوقعة من هذا الكيان الجماعي، الذي فاجاءني أحد الصديقين بالقول: "الحزب في باكستان مصلحة (بالمعنى الشعبي) الأذكياء".
فقر في المأسسة:
غَبَش الرؤية وضعف العزيمة يصبان أوزارهما على كاهل مأسسة عمل الجماعة وتطوير آلياتها وادواتها.
لذلك نرى فشل هذه الجماعة كما يعترف الصديقان نفسهما في الوصول(فضلاً عن إنفاذ لآلية إنتاج وتحديد السياسات).
أضف إلى ذلك، كما يقول مرشح الحزب الباكستاني لانتخابات 2013 عن دائرة (NA-48) في اسلام آباد أن ليس هناك آلية واضحة ومحدد لاتخاذ القرارات الحزبية، ما أعتبره أحد أهم أسباب النزاعات الداخلية في الحزب". -إنتهى-
يقول صديقي عضو شورى الحزب مبرراً الإخفاقات التنظيمية والمؤسساتية للجماعة وهو يخاطبني: "يا أخي كلامك صحيح .. لكننا "حزب ذو قيادة كاريزمية". –إنتهى –
أولاً: ما معنى "حزب ذو قيادة كاريزمية"؟! وهل بالفعل في باكستان اليوم قيادة كاريزمية أو قيادة تاريخية مُلهمة؟ يعني هل نحن أمام قيادة بحجم مؤسس الدولة محمد علي جناح أو صاحب الجماهيرية الأعرق في تاريخ باكستان ذو الفقار علي بوتو؟
ثانياً: بناء على قاعدة "إثبات الشيء لا ينفي ما عداه"، وبالتسليم جدلاً أننا أمام شخصية كاريزمية هي الأفضل بين الموجودين حالياً في باكستان، أي منطق أو عقل يقول أن القيادة الكاريزمية تُغني عن تنظيم العمل الجماعي ومأسسته للحفاظ على ديمومته وصحة خياراته وسياساته؟ وهل وجود قيادة كاريزمية يعطي عقول أفراد الجماعة عطلة مفتوحة؟ رحم الله غوستاف لوبون مؤلف كتاب "سايكولوجية الجماهير"، الذي كان من اوائل من تنبهوا لخطر ذوبان العقل الفردي بعقل الجماعة.
آخيراً، قد يكون محقاً عزيزي في العاصمة العربية في نظرته الواقعية من الخارج للساحة الباكستانية ،لكنني من الداخل وأخوانٌ لي لا يطاوعنا عقلنا ووجداننا القبول بالواقع كيفما كان ، لمجرد أنه واقع ، فأصلاب الرجال الذين قدموا للتاريخ شهيد المحراب القائد السيد عارف حسين حسيني، وشمران باكستان الدكتور محمد علي نقوي، والشهيد ناصر صفوي مُستهدف السفارة الأمريكية بقذائف الآر بي جي، والشهيد محرم علي والشهيد جنتي و.... تأبى التملص من عهودٍ ذرفتها أعينٌ ذات فجرٍ على خد الصباح.