ارشيف من :أخبار لبنانية
رحلة القمح الى برغل والملوخية الى يخنة.. المونة.. أنت تأكل مما تزرع وتصنع

كتبت رنا جوني
في زمن غزت فيه المواد المعلبة بيوتنا وباتت تحتل الدرجة الأولى في غذائنا اليومي، وبعدما غابت العناية بالمونة البيتية التي كانت تحضرها الجدات، بتنا اليوم في أمسّ الحاجة للعودة الى الجذور لإنتاج المونة البيتية التي تنطلق من طبق الدبس مع الطحينة وصحن الكشك مع القاورمة الى الكوسا والبامية والملوخية المجففة على الخيط، واللبنة "المدعبلة" ورب البندورة وغيرها..
في بلادنا لم تعد المونة تقليداً او تراثاً معتمدا حصرا في المنازل الجبلية والقرى النائية، بل أصبحت حاجة الى التوفير الاقتصادي وتأمين لقمة عيش لأناس يستحقون ان يأكلوا مما تنتجه أرضهم.
وفي وقت ينشط الاهتمام بهذه العادات نظراً لأهميتها في حياة الناس، فضلاً عن أن آلاف الأسر خصوصاً في الأرياف يعتمدون في عيشهم على تحضير المونة وبيعها.. فإن العديد من الجمعيات نشطت في اقامة المعارض الموسمية والأسواق شبه الدائمة للمونة.. وهي من قبيل التنمية الريفية.
في هذا التحقيق محاولة لإلقاء نظرة على اهتمام الناس بالمونة، لا سيما في منطقة الجنوب، حيث تختلف العادات في لبنان بين منطقة وأخرى على مستوى أنواع المونة التي يجري تحضيرها.
تحولت المونة البيتية أولوية لدى ربات المنازل واحتلت مكانة مهمة طوال السنوات الماضية، ولكن في ظل الغلاء الفاحش وتردي الأوضاع الاقتصادية حالياً، يمكن القول إنها تعود الى المكانة التي فقدتها في الأعوام السابقة لتخفف ولو قليلاً من الأعباء عن كاهل الناس. كما أن القيمة الغذائية التي توجد في أصناف المونة المعدة في المنازل من دون اضافة أي مواد حافظة اليها، تشكل اليوم البديل المفترض عن المعلبات وما تحمله من أضرار صحية.
أم علي واحدة من عشرات النسوة اللواتي ينهمكن طيلة فصل الصيف بإعداد المونة، لم تمنعها تجاعيد العمر من المضي في مشوار جداتها ووصاياهن. وهي تستحضر أمثال الأجداد بحق المونة: "بأيلول وتشرين موّن لعيالك، وشيل الهم عن بالك"، و"مونة الشتاء في البيت يا ابني، مثل القرش الأبيض الذي تخبئه لليوم الأسود، ومتى وجدت القمحات والبرغلات والحطبات بيرتاح البال". من هنا تبرز أهمية المونة في حياة القرويين على وجه العموم، ومن هنا تدرك لماذا تنهمك النسوة بإعداد وتحضير المونة مهما تطلبت من وقت.
أم حسن ورحلة القمح
أم حسن من بلدة كفر رمان ـ النبطية تعتبر من أشهر النسوة الجنوبيات في إعداد وتحضير مونة الشتاء، وهي تعتبرها من أهم الأعمال التي يجب أن تقوم بها حتى لو مال الدهر علي فـ"البيت بلا مونة متل الحياة بلا طعم".
تشرح أم حسن كيفية تحضير المونة، وتبدأ من سلق القمح لتحضير البرغل.. تقول: "من بعد حصاد القمح ودرسه تبدأ رحلة السلق، تجتمع العائلة والجيران حول موقدة توضع فوقها "الحَلة" وتكون فرصة لأكل "القلبة" (قمح مسلوق مع السكر).. ثم يتعاونون لنقل القمح الى سطح المنزل حيث يفرش تحت أشعة الشمس ليجف، وبعدها يؤخذ الى المطحنة ليجرش ويحول الى برغل. وهنا يقاطعها جارها قائلا: "بعد جرش القمح يبقى منه الصريصرة" أي "الرويشة"، وقديما كنا نجتمع لأكلها مع السكر والماء لشدة الفقر.
تعد الملوخية من أكثر الأطباق العربية شهرة، وكل ما يعرف عن الملوخية انها تؤكل يابسة.. ولكن المعاناة التي يتكبدها المزارع من زراعتها الى تجفيفها قليل منا يدركها.. تقول أم حسن: لا شيء صعب.. الملوخية تزرع مع بداية فصل الصيف وتستمر مدة ثلاثة أشهر.. أي إنها موسمية. وتمر بعدة مراحل كي تصل الى مرحلة اليباس.. تقطف ورقة ورقة ومن ثم تجفف بعيدا عن الشمس، وهي تحتاج الى صبر، فقطاف الملوخية يستمر من 4 الى 6 ساعات في اليوم حسب المساحة المزروعة.
الكشك والمربيات ورب البندورة
ومن لا يحب الكشك والكبيس والمربيات، تقولها أم حسن التي تدرك ان قلة قليلة من الناس اليوم تعتمد على المونة البيتية، والغالبية تشتري كل شيء جاهزاً. تضيف: "شو ما صار رح واصل مشوار اعداد المونة لأولادي ولأحفادي، وسأعوّدهم عليها".
تتغنى الحاجة فوزية بكل ما تنتجه يداها، وكأنها توصل رسالة للجميع ان يعودوا الى المونة ولو كان ذلك يتطلب وقتا وجهدا.. فأنت تعرف ما تأكل. ولرب البندورة طريقة معينة، اذ يجب ان يحظى بعناية خاصة كي لا تتلف. أولاً عليك ان تختار البندورة البلدية الجيدة، ومن بعدها تعصرها وتسحب منها المياه قبل ان تكمل طريقها باتجاه الغلي على نار هادئة مع تحريك وسحب المياه منها حتى تخلص الى رب البندورة الذي يبقى تحت أشعة الشمس من يومين الى ثلاثة ليوضع بعدها في أوعية ويحفظ في مكان بارد.
وهناك الصعتر الممزوج بالسماق والسمسم، "ومن لم يذق طعم الصعتر البلدي الجنوبي لم يعرف قيمته".. بهذه العبارات تختصر أم حسن أهمية وقيمة الصعتر. وحول تحضيره تقول إنه بعد أن يُقطف ويُجفف يجري دقه مع السماق تحت أشعة الشمس حتى تحصل على طعم جيد، وله فوائد كثيرة.
الفريك يضاهي السمك المدخن
ومن أنواع المونة ايضا الفريك الذي يوازي بأهميته السمك المدخن، فالأجداد منذ مئات السنين يدخنون القمح ويحولونه الى فريك.
وعن تحضيره يخبرنا العم علي الذي يقوم بهذه العملية منذ عشرات السنين، يقول: نأتي بسرير قديم "رفاص"، نشعل تحته النار ويكون وقودها جذوع الأشجار الخضراء لكي يتصاعد منها الدخان الكثيف، بعدها نضع سنابل القمح الخضراء على السرير الذي يبقى بعيدا نوعا ما عن النار، ويستوي القمح من الدخان ويتحول الى فريك.
ان المونة هي واحدة من تقاليد المنطقة، وهي تمثل العودة الى الجذور.. وقبل كل شيء هي تطبيق للحكمة التي تقول: أنت تأكل مما تزرع.. وتصنع.
الانتقاد/ العدد 1293 ـ 26 آب/ أغسطس 2008