ارشيف من :أخبار لبنانية
معنيان لمعركة حلب - ربيع بركات

ربيع بركات - صحيفة "السفير"
قبل أسابيع، ومع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، بدأت تظهر ملامح إعداد الجيش السوري وحلفائه لخطوة الانقضاض على شرق حلب. «لحظة الفراغ» الانتقالية في رأس الهرم الأميركي التي أراد هؤلاء استثمارها، تشبه تلك التي خلّفتها محاولة الانقلاب في تركيا في تموز الماضي. حينها أُنجز طوق الحصار على الشطر الشرقي من المدينة، بعدما مَهّدت له شهورٌ من التحضير الميداني.
اليوم تم تحصيل نتائج الخطوتين المذكورتين بالكامل. بالمعنى الاستراتيجي، يعني انتزاع عاصمة الشمال من فم المعارضة المسلّحة أن العد العكسي لنهاية الحرب بشكلها الراهن قد انتهى. على دُفعات، راح سيناريو جعل حلب مرادفاً لنموذج بنغازي الليبي، حيث تسقط عاصمة البلاد الثانية تمهيداً لدكّ العاصمة الأولى وإسقاط سلطتها، يضمر حدّ التلاشي. بعدها انتهت مفاعيل ابتلاع حلب في ثقب أسود، بحيث تبقى أسيرة ستاتيكو يُحيّدها عن محصّلة ميزان القوى، وبحيث تظلّ محطّة استنزاف متواصل للجيش السوري.
لا يعني ذلك أن أطراف البلاد التي تسيطر عليها المعارضة المسلّحة و («داعش») لقمة سائغة، ولو أن مؤشرات الصراع بين الفصائل الذي تريد أنقرة تجنّبه في أرياف الشمال قد تظهر تباعاً. كذلك لا يعني أن العمق السوري سيكون بمنأى عن الهجمات. والنقطة الأخيرة تحيلنا إلى المعنى الثاني لمعركة حلب، تلك المتعلّقة بالعلاقة العضوية بين الاستقرار والحاجة إلى إعادة إطلاق مسار سياسي (واستطراداً إنساني) للأزمة السورية. التعامل في معركة شرق حلب مع ملف مدنييها بالأمس، حتى لحظة وقف إطلاق النار، يوحي بأننا ما زلنا بعيدين عن ذلك.
ينبغي ألا يغيب عن بال أحد أن كلّ جريمة تُرتكب في شرق حلب، عدا عن كونها كذلك، تُبرّر لإرهابي سابق وتستولد إرهابياً جديداً. من يبتهج بها أو يغضّ الطرف عنها، يُفترض أن يتوقّع مردودها عليه. هذه القاعدة حاكمة لمجريات الأحداث، ليس في سوريا فحسب، بل في سائر الإقليم كذلك. الموقف الأخلاقي هنا (وهو متصل بالمصلحة السورية العامة) ينبغي أن يكون ملازماً لقراءة مسار الحرب، من دون أن يعمى عن سياقها العام أو يُخلّ بفهمه.
لكن هذا شيء، وأن يتنطّح ليبراليو «جبهة النصرة» وأمثالها (الذين شكّلوا معظم مسلحي حلب الشرقية) ليُعايروا من لم يَسر بركبهم في السياسة، شيءٌ آخر. فبعض المزايدات التي راجت بالأمس، لا يمكن فهمها، كما جرت العادة، إلا كمشاركة طوعية في تجارة المواقف الرائجة منذ حين. علماً أن أنصار حقوق الإنسان حين تكون في خدمة السياسة حصراً، ليسوا أبرياء من الدماء تماماً. فمن هلّل لتفجير «مستشفى الكندي» وقتل أطبائه في حلب من قبل فصائل المعارضة المسلّحة وسمّى ذلك «تحريراً» في السابق، يُفيد الرجوع إلى أرشيفه الزاخر حتى يتبيّن هُزال ادّعائه الثوري. بل ثمة من له في تبرير قتل نصف السوريين (إذا استندنا إلى أرقام «المرصد السوري لحقوق الإنسان»)، والتصفيق لهذا القتل، إرثٌ مهمٌّ من الزيف الذي يُستحسن ألا ننساه بعد أن تضع الحرب أوزارها، حتى نعيد لحقوق الإنسان، في مواجهة قمع أي نظام، في الشام أم غيرها، معناها المُجرّد، وحتى لا يظل الأمر ألعوبة بيد خارجٍ له مصالحه (أقله ليس بالقدر نفسه)، أو شماعةً لسلطات أمنية تهوى شيطنة المطالبة بهذه الحقوق من حيث المبدأ. ذاك هو المعنى الثاني، المُركّب، لمعركة حلب.