ارشيف من :أخبار عالمية
نهر النيل: إسرائيلي أم مصري؟
عقيل الشيخ حسين
انعقد في بداية الأسبوع الماضي (27-7-2009) اجتماع في الاسكندرية ضم وزراء المياه في البلدان الأفريقية العشرة التي يعبرها نهر النيل. وتنقسم هذه البلدان تبعاً للخلافات القائمة حول تقسيم مياه النهر في ما بينها إلى قسمين، لكل منهما مصالحه المحددة. ويضم القسم الأول بلدان المنبع الثمانية: الكونغو الديموقراطية، ورواندا، وبوروندي، وأوغندا، وأثيوبيا، وأريتريا، وتنزانيا، وكينيا. أما القسم الثاني فيضم بلدي المصب: السودان ومصر. مع الإشارة إلى أن وضع السودان الملتبس من الناحية الجغرافية (لا هو منبع ولا هو مصب) تترتب عليه خلافات إضافية بينه وبين مصر.
وقد جاء هذا الاجتماع محاولةً لتدارك الفشل الذي أحاق باجتماع مشابه عقد في أيار/ مايو الماضي بهدف التوصل إلى رؤية موحدة للإطار القانوني والمؤسسي لمبادرة حوض النيل التي أطلقت عام 1999، تحت شعار "تحسين معدلات التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر"، في بلدان الحوض.
لكن الفشل كان أيضاً من نصيب اجتماع تدارك الفشل، فقد برزت خلافات حادة نشأت عن وحدة مواقف بلدان المنبع، وافترق المشاركون على اتفاق يقضي بمواصلة الحوار خلال الأشهر الستة القادمة.. وهو ما اعتبر مجرد تأجيل للخلافات التي تبدو مفتوحة على المزيد من التفاقم.
ويعود ذلك إلى أن تقاسم مياه النيل لا ينتظر الاتفاقات، لأنه يجري باتفاقات وبغير اتفاقات، على أرض الواقع: بلدان المنبع بدأت بإقامة سدود وشق ترع لاستغلال مياه النهر. أثيوبيا وحدها أقامت حتى الآن حوالى 120 سداً. والأصح - لأن الحديث عن البلدان مجاف للحقيقة - أن شركات إسرائيلية وأميركية تشتري بالثمن البخس، مساحات شاسعة من أراضي تلك البلدان وتقيم عليها مشاريع ضخمة، منها ما هو زراعي ومنها ما يتعلق بالملاحة، أو السياحة، أو الثروة السمكية، أو توليد الكهرباء.
وأياً كانت هذه المشاريع، فإن نتيجتها واحدة: تضاؤل كميات المياه التي يحملها النيل إلى مصر، وما يستتبعه ذلك من تأثيرات اقتصادية واجتماعية وبيئية مدمرة لهذا البلد المعروف تاريخياً بأنه "هبة النيل".
والحقيقة أن المشكلة ليست جديدة، فإرهاصاتها تعود إلى عشرات ومئات السنين. واللافت أن مصر اتخذت إزاءها موقفاً غير آبه بما فيه الكفاية، لاعتقادها بأن بلدان المنبع الغنية بالأمطار وذات الزراعات الموسمية لن تحتاج إلى استغلال مياه النيل بطرائق غير تقليدية، وإن احتاجت إلى ذلك، فإنها لن تتمكن من حجز المياه عن مصر لأسباب طبيعية وتقنية.
لكن الجديد في المشكلة أن الزمن قد تغير، فالزراعات صارت صناعية، وصار بإمكان "البيلدوزارات" والتفجيرات أن تتحكم بحركة المياه. والأهم من ذلك أن حكام بلاد النيل "فقراء"، وعروض الشركات الإسرائيلية والأميركية شديدة الإغراء.. والخطر بات يهدد مصر بشكل غير مسبوق.
ومع ذلك، يبدو أن مصر لا تزال بعيدة عن تحسس الخطر بالجدية الكافية، حتى وإن صدرت عن مسؤوليها بين الحين والآخر، تهديدات ذات نكهة عسكرية. فالموقف المصري يبدو واثقاً بقيمة ما يسمى بالحقوق التاريخية وبالقانون الدولي، وخصوصاً اتفاقيات تعود إلى عشرات السنين بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا التي كانت تستعمر جميع بلاد حوض النيل! ومن هذه الاتفاقيات واحدة تحمل تاريخ العام 1929، وتخص مصر الخاضعة يومها للاحتلال البريطاني بـ(55.5) في المئة من مياه نهر النيل.
لكن برلمانات بعض دول المنبع بدأت تتداول فكرة تقديم شكوى أمام محكمة العدل الدولية لإعادة النظر بتلك الاتفاقيات الموقعة خلال الفترة الاستعمارية. والأكيد أن القوانين والاتفاقيات تقبل التغير وتفقد قيمتها، حتى لو كانت محقة وعادلة، عندما تفتقر إلى ما يمنحها قوة البقاء. وهذه القوة كانت متوفرة يوم كانت مصر الخمسينيات والستينيات تحتل موقعاً ريادياً في قيادة حركة التحرر وتتمتع باحترام الشعوب والكثير من حكومات حوض النيل وأفريقيا والعالم الثالث.
إلا أن كل ذلك لم يعد متوفراً اليوم، في ظل تراجع السياسات المصرية التي تركت، في أفريقيا وغير أفريقيا، فراغاً سمح للأميركيين والإسرائيليين بالتغلغل في الكثير من المناطق، والعمل من ثم، برغم كل ما اتخذته مصر من مواقف في خدمة السياسات الإسرائيلية والأميركية، على التضييق على مصر وصولاً إلى تعطيشها بحرمانها من شريانها الحيوي المتمثل بمياه نهر النيل.
وإذا كانت "إسرائيل" قد فرضت نفسها دولة مشاطئة للبحر الأحمر الذي تسعى حالياً إلى تدويله ونزع هويته العربية، فإنها تسعى أيضاً إلى فرض نفسها، نكاية بكل منطق، دولةً من دول حوض النيل. فهي لم تنسَ المشروع الساداتي لإيصال مياه النيل إلى فلسطين المحتلة عبر سيناء، والذي أفشله الشعب المصري أكثر من مرة. ومن الممكن أن يكون الضغط على مصر انطلاقاً من بلدان المنبع، محاولة لاغتصاب موقع مصر كمصب للنيل.
والمريع في ظل فلتات السياسات المصرية، أن نستفيق يوماً قد لا يكون بعيداً، على طمس مشكلة حوض النيل عبر تقليصها إلى مشكلة (وتضخيمها إلى حرب) بين مصر والسودان. ذلك ما يتراءى من النبرة الإعلامية التي تحاول من فوق بعض المنابر المصرية، تصوير سد أقامه السودان مؤخراً على أنه الخطر الأكبر الذي يتهدد أمن مصر المائي والوجودي!
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018