ارشيف من :آراء وتحليلات

الشرق الأوسط والإستقرار المتعثر

الشرق الأوسط والإستقرار المتعثر

لا خلاف على أن منطقة الشرق الأوسط تعاني أزمة عدم استقرار مزمنة، وكلما بدا أنھا استقرت في شكل يسمح بتصور ملامح نظام يؤسس لنمط تفاعل مستقر بين دولھا، يقع انفجار غير متوقع، لتعود العملية إلى المربع الأول.

والانفجار ھذه المرة جاء من الداخل، وما نشھده حالياً ھو حالة من الانفلات الإقليمي خالية من الضوابط والتوازنات، حيث باتت كل دولة من دول المنطقة، أو ما تبقى منھا، تتصرف بمفردھا في محاولة للحفاظ على وجودھا من دون وجود لأي ضابط إيقاع إقليمي. والأخطر من ذلك التفلت غير المسبوق في العلاقات الدولية لا سيما الأداء السياسي والعسكري الروسي من جھة واللامبلاة الأميركية، ولا حاجة إلى الحديث عن شبه انعدام للدور الأوروبي.

الشرق الأوسط والإستقرار المتعثر

الشرق الأوسط والإستقرار المتعثر

أما الدول العربية فهي اليوم في حالة تفكك وفقدان للتضامن والاولويات. وليست إيران البلد الوحيد الساعي الى رسم حدود المنطقة من جديد رسماً يخدم مصالحها ومبادئها. فالرئيس التركي دعم "داعش" في تحديھا نظام سايكس -  بيكو، والأكراد يسعون الى تغيير خريطة الشرق الأوسط ويرغبون في دولة خاصة بھم، ويتوقعون بروزھا جزاء لمساھمتھم في ھزيمة "داعش".. لذلك تولي تركيا الأولوية للحؤول دون استقلال أكراد العراق أكثر مما توليھا لھزيمة "داعش" أو إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وتسعى أنقرة الى قمع الميليشيات الكردية السورية المتحدرة من "الكردستاني"، فھي تخشى أن تحوز الميليشيات ھذه مشروعية دولية بعد كسبھا احترام العالم في ميدان المعارك. ولكن حظوظ دولة كردية في الحياة ضعيفة - في وقت تقع بين 4 دول إيران والعراق وتركيا وسوريا - تعاديھا وتعارض بروزھا.

ولا ننسى هنا، روسيا وھي لاعب بارز في الشرق الأوسط، على رغم أن الكرملين غير معني بالمواجھات الحامية  بين القوى المتصارعة، إلا أن أھدافه اليوم تتقاطع مع أھداف الاطراف الفاعلة.. ولكن حين تستقر الأحوال، سيبرز التنافس للسيطرة السياسية على سوريا وجوارها.

كتب ھنري لورنس، المحلل والمؤرخ الفرنسي في مجلة  "LE POINT" تحت عنوان "نزاع استراتيجي في الشرق الأوسط على الھيمنة والريادة": "نشوب نزاع استراتيجي في الشرق الأوسط لا يقتصر على نزاع بين السنّة والشيعة فحسب، ويبدو أن طھران تسعى إلى بلوغ البحر المتوسط، وإلى إنشاء "حزام أمني" يحمي إيران، عن طريق نقل مسارح النزاع إلى خارجھا".

 الولايات المتحدة التي تراجعت عن الاضطلاع بدور شرطي المنطقة، خلفت فراغاً، ومع اضطراب الدور الأميركي أو غموضه في المنطقة، تبسط إيران نفوذها ضمن محور المقاومة والممانعة وتبرز بقوة في الساحة الديبلوماسية الدولية. ولذا، على قطر التي تنتھج سياسة مھادنة إزاء إيران حسم أمرھا وتبديد موقفھا الملتبس: فإما أن تنحاز إلى المعسكر السعودي وإما إلى محور ايران.

ولا ننسى هنا، أن الاتحاد الأوروبي شريك تجاري وازن في المنطقة، والكل يلجأ إلى أوروبا حين تتوتر علاقاته بالولايات المتحدة.. واستثمرت قطر في القارة القديمة أكثر من 400 بليون يورو.. وتعرض إيران على أوروبا عقوداً اقتصادية مجزية، لكن أوروبا لا ترغب في أكثر من ھذا الدور التجاري في الشرق الأوسط، فالغرب لا يريد الانزلاق إلى أتون المنطقة ھذه.

أما بالنسبة لـ"إسرائيل"، فقد أعد ترامب خطة للسلام في الشرق الأوسط وإسرائيل مرتاحة الى تبدل الأولويات العربية، فعندما قرر الرئيس الأميركي أن يدخل الشرق الأوسط من باب السعودية، كان يعلن في سياق تصفية إرث اوباما السياسي أنه يسعى الى استعادة الحلفاء التقليديين لأميركا ويضع مسألة احتواء المشروع الإيراني المتعاظم في المنطقة على رأس أولوياته.

وعندما قرر ترامب أن يغادر المنطقة من باب "إسرائيل"، كان يعلن أنه في صدد إعادة الاعتبار والمكانة لمسألة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي التي أھملت كثيرا في السنوات الأخيرة ووضعت على "رف الانتظار"، وأنه في صدد الإعداد لخطة تحريك مفاوضات السلام ورد الاعتبار لمشروع "حل الدولتين"، ولكن وفق منھجية جديدة وخطة حل مبتكرة تأخذ في الاعتبار المتغيّرات الجذرية الحاصلة في المشھد الإقليمي.

في تقدير أوساط دبلوماسية،فإن واشنطن ستتولى الحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط مقابل أن تتولى السعودية تشجيع السلام العربي- الإسرائيلي، وتعديل مفھوم "الأرض مقابل السلام"، والتغاضي عن التطبيع العربي الجاري مع إسرائيل لأن جوھر الصراع انتقل من مصير الشعب الفلسطيني إلى مصير الدول العربية وأنظمتھا وإلى الصراع مع إيران ومكافحة الإرھاب.. وفي ھذا الإطار يعمل ترامب على تحضير لقاء مسيحي - إسلامي - يھودي يغطي الانعطاف العربي نحو صلح واقعي قبل سلام رسمي.

يبدي المقربون من نتنياھو ارتياحا الى التطورات، فقد بات الموضوع الفلسطيني ھامشيا أيضا بسبب التطرف الإسلامي وأصبحت إيران مع حلفائھا مشكلة العالم العربي بدلا من القضية الفلسطينية. ويقول ھؤلاء إنه في الغرف المغلقة لا أحد من العرب يھتم بھذا الموضوع، فالدول العربية منشغلة بنفسھا وببقائھا لأن إيران تخيفھا.

وليس صدفة إنشاء الائتلاف السعودي الذي يضم عددا من الدول، وبسبب ھذا الخطر سيفتحون علاقات مع "إسرائيل" في عھد ترامب الذي ستتوصل معه إسرائيل الى تفاھمات وعلى الطريق سيكون ھناك حل للموضوع الفلسطيني.

بالإجمال، إسرائيل راضية تماما عن مسار التطورات الدولية التي تخدمھا وتصب في مصلحتھا، وبدأت استثمارھا والبناء عليھا.. ولا يتعلق الأمر فقط بالرئيس الامريكي، وإنما أيضا بالتطورات السياسية الدراماتيكية في أوروبا، بدءا من الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، مرورا بوصول رئيس فرنسي مؤيد لھا، وصولا الى تبدل السياسات والاولويات لأوروبا الغارقة في مشاكل الأمن والإرھاب والھجرة، والمنصرفة عن مشاكل وأزمات المنطقة بما فيھا أزمة الشرق الأوسط وملف "الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي"، ومجمل ھذا الوضع أدى الى ضعف الجبھة المناوئة لإسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي.

في النهاية نجد أن التحولات والتحديات التي تطال النظام الإقليمي قد تكون ناتجة عما يجري على مستوى العالم. ولعل المشكلة اليوم ليست أزمة النظام الإقليمي، إن وجد، بقدر ما ھي أزمة نظام عالمي يتداعى، والتحدي الأكبر لمستقبل المنطقة والأجيال المقبلة ھو موضوع إعادة البناء السياسي والاجتماعي والثقافي الى جانب الإعمار الاقتصادي والمالي، وعلى أي أسس ومبادئ وأفكار ونماذج؟

2017-07-23