يعبق آب برائحة الامام.. ومع أيلول تلوح نسائم الغياب.. وبين الاثنين حكاية إمام رفع لواء المقاومة في الزمن الصعب.. وضع الحرية نصب عينيه سالكاً طريق الوحدة بين أطياف الوطن. قريبٌ من الفقراء يتفقد أحوالهم وينادي بمطالبهم، حتى سمّي بحبيب المحرومين.. وقائد وطني قلّ نظيره.. كان من أوائل الذين أوقدوا شعلة مقاومة المحتل الاسرائيلي في جنوب لبنان، وصاحب مقولة "إذا احتلت إسرائيل جنوبي سأخلع ردائي وأصبح فدائياً".

الإمام السيد موسى الصدر ولد في 4 حزيران عام 1928 في مدينة قُمّ بإيران، من عائلة من كبار العلماء العامليين التي تعود جذورها إلى السيد صالح من قرية شحور العاملية في جنوب لبنان، إلى الإمام موسى بن جعفر (ع). عام 1941 دخل الحوزة العلمية وتابع تحصيل العلوم الفقهية وصولًا إلى درجة الاجتهاد في مدينة قُمّ المقدسة. 1950 التحق بجامعة طهران، كلية الحقوق، قسم الاقتصاد، وتخرّج منها سنة 1953، وكان أول معمّم يتلقى العلوم الحديثة في الجامعة، كما استمر في الدراسة والتدريس في الحوزة.

من العلوم الدينية.. الى التصدي لقضايا الجهاد والنهضة بالثقافة في لبنان

بين قم وكربلاء والنجف الأشرف، أمضى الامام سنيّه طالباً للعلوم الدينية، الى أن قدِم الى لبنان للمرة الأولى عام 1957 بدعوة من المرجع الكبير سماحة السيد عبد الحسين شرف الدين، وأقام في منزل السيد في صور. لكن غياب المرجع شرف الدين عام 1958 ترك فراغًا كبيرًا، فطالبت فاعليات الطائفة الشيعية الامام الشاب ذا الثلاثين عامًا بالحلول مرجعًا للطائفة الشيعية، واستجاب للطلب.

كان لسماحة الإمام نشاطات بارزة على مختلف الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية. عام 1961 أطلق عمله الاجتماعي المؤسساتي بدءًا بإعادة تنظيم هيكلية "جمعية البر والإحسان"، ومرورًا بإنشاء مؤسسات عامة تعنى بالشؤون التربوية، المهنية، الصحية، الاجتماعية والحوزوية. كانت لدى الامام رؤية منفتحة على الأديان، وقد شارك في مراسم تتويج قداسة البابا بولس السادس بناء على دعوة رسمية وكان رجل الدين المسلم الوحيد الذي دُعي لهذه المناسبة.

في العام 1966 عقد مؤتمرًا صحفيًا في مقر نقابة الصحافة بيّن فيه الأسباب الموجبة لتنظيم الطائفة الشيعية، وذلك بعد دراسات واستشارات وتحركات مكثّفة مما أدى إلى إقرار مجلس النواب قانون إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في عام 1967، وكانت هذه الخطوة مقدمة لحركة مطلبية إنمائية لبنانية عامة من أجل رفع الحرمان والدفاع عن الجنوب أرضًا وشعبًا. وعام 1969 انتُخِب الإمام رئيسًا للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وأعلن برنامج العمل لهذا المجلس.

 الامام يحذّر من الخطر الصهيوني.. يزور السويس.. ويعلن "حركة أمل"

ارتفع صوت الامام منادياً بتوحيد الشعائر الدينية بين المذاهب الإسلامية، محذّراً من الخطر الصهيوني، ومؤكداً دعمه للمقاومة الفلسطينية لتحرير الأرض المغتصبة. ودخل الامام معترك الجهاد ضد المحتل، فعام 1970، أطلق حملة تعبوية إعلامية للدفاع عن الجنوب في وجه الاعتداءات الإسرائيلية مطالبًا بتسليح المواطنين وتدريبهم للدفاع عن أنفسهم.

عداء الامام لـ"اسرائيل" وإيمانه بالعروبة، دفعه الى زيارة جبهة السويس حيث أمضى عدة أسابيع فيها واجتمع إلى العسكريين، وأمَّ الصلاة في مساجدها ودعا إلى وجوب التمسك بالدين وإعلان الجهاد المقدس في سبيل تحرير فلسطين، كما اقترح مشروع "سندات الجهاد" لتفعيل المشاركة على كافة المستويات الشعبية في الجهاد ضد "إسرائيل".

الى العام 1974 حيث دعا الامام الصدر إلى مهرجانين في بعلبك وآخر في صور بحضور مئات الآلاف من المواطنين، الذين أقسموا مع الإمام الصدر على عدم الهدوء حتى لا يبقى محروم أو منطقة محرومة في لبنان وأدى ذلك إلى ولادة "حركة المحرومين".
وفي الحرب الأهلية كان دوره مبلسماً لجراح الفتنة. عام 1975 بذل الإمام المساعي والجهود لدى مختلف الأفرقاء لتهدئة الوضع فوجه النداء تلو النداء محذرًا من مؤامرات العدو ومخططات الفتنة، وأشرف على تشكيل "لجنة التهدئة الوطنية" محددًا خطوط تحركها العريضة بالمحافظة على التعايش ووجوب المحافظة على الثورة الفلسطينية.

لم يكتفِ الامام بذلك، بل كان له موقف حاسم من تواصل الاقتتال بين اللبنانيين. واحتجاجًا على استمرار الحرب اعتصم الامام في 27 حزيران في مسجد العاملية-بيروت متعبدًا صائمًا، وأنهاه بعد خمسة أيام إثر تشكيل حكومة مصالحة وطنية، لينطلق نحو قرى القاع ودير الأحمر في البقاع لفك الحصار عنها ووأد الفتنة الطائفية.

وأعلن عن ولادة "أفواج المقاومة اللبنانية" (أمل) في مؤتمر صحفي عقده لأداء دورها في تحرير الأرض والإنسان، بعد أن كانت قد خاضت معارك عدة ضد العدو الصهيوني. محذراً من أخطار ثلاثة: خطر التقسيم لأن التقسيم "إسرائيل" ثانية في قلب الوطن، وخطر الاعتداءات الإسرائيلية الذي يجب علينا وجوبًا شرعيًا وتاريخيًا ووطنيًا أن نقف للتصدي لها، وخطر تصفية المقاومة الفلسطينية.

وغاب..

عام 1978 قرر الامام القيام بجولة عربية على عدد من الرؤساء العرب، فوصل مع رفيقيه فضيلة الشيخ محمد يعقوب والأستاذ الصحافي السيد عباس بدر الدين إلى طرابلس-ليبيا في 25 آب تلبية لدعوة رسمية من سلطاتها العليا.. ومنذ ظهيرة 31 آب انقطع الاتصال بهم.

زعمت ليبيا أن ضيوفها تركوا الأراضي الليبية متجهين إلى إيطاليا، لكن القضاءين الإيطالي واللبناني كذّبا هذا الادعاء ونفيا دخول أي من الثلاثة موانئ إيطاليا البحرية والبرية والجوية. لم يُسمح للامام بإكمال مشروعه النهضوي والتنموية والوحدوي الوطني المقاوم على أرض لبنان. أُريد من خلال تغييبه اغتيال هذا الدور الذي شكّل خطراً على وجود الكيان "الاسرائيلي". لكن الامام السيد موسى الصدر، خلّف جيلاً من الشباب الواعي المجاهد، الذي أكمل المسيرة نحو تحرير الجنوب.. وأزهر مقاومة صلبة على جميع الأصعدة..