ارشيف من :آراء وتحليلات
ولادة الحكومة ما زالت متعثرة لماذا؟
كتب المحرر السياسي
بعدما عاد الرئيس المكلف من إجازته العائلية والقهرية، بدا للوهلة الأولى، أن عملية التأليف ستشهد انطلاقة متجددة قوية توصل قطارها الى محطة الانجاز النهائي، ولا سيما أن هذه العودة بدت مفاجئة، ومن خارج الأجواء التي كانت تؤكد بأن سفر الحريري سيطول، ولن يأتي قبل نضوج الأمور، وتوافر كل أسباب انجاز الطبخة الحكومية.
لكن سرعان ما تكشفت الأمور عن واقع مختلف، فلا الرئيس المكلف بدل في ديناميكيته، معيداً التأكيد على أنه مستعجل لكن من دون تسرع، ومشيعاً أجواءً بأنه سيأخذ وقته الكامل.
الى جانب هذه المناخات بدأ يتواتر كلام منسوب لجهات دولية وإقليمية ومحلية مختلفة تبدو متناقضة للوهلة الأولى: فمن جهة هناك من يقطع بأن انجاز تأليف الحكومة لن يكون في متناول اليد قريباً، ضارباً مواقيت مختلفة تتراوح بين نهاية شهر رمضان المقبل، وأواخر السنة الحالية، ومن جهة أخرى، هناك من أخذ يرسل إشارات حول إطالة عملية التأليف أكثر مما ينبغي، محذراً من هذا الأمر، لا سيما أن الوضع في لبنان دقيق وهشّ للغاية، في الوقت الذي تمر فيه المنطقة بتحولات بالغة الدقة والخطورة.
وسط هذه الأجواء العامة عاد السؤال حول الأسباب الأساسية التي تحول دون تشكيل الحكومة ليفرض نفسه بقوة على الحياة السياسية اللبنانية، وهو سؤال يتجاوز في أبعاده مسألة تكليف الحكومة، ليطال كل الإطار السياسي المتعلق بها داخلياً وخارجياً.
من المعروف، أن عملية تأليف الحكومات في لبنان، تمر في مخاض مندرج من الخطوات، أبرزها:
أولاً: حسم الصيغة التي على أساسها سيتم تشكيل الحكومة، والصيغة هنا، ليست أمراً فنياً، وإنما أمر سياسي بالغ الدلالة، لأنها ـ أي الصيغة ـ هي التي تحدد طبيعة الحكومة: حكومة شراكة فعلية، أم حكومة مشاركة، حكومة وحدة وطنية، أم حكومة ائتلاف وطني، التسميات هنا، ليست شكلية، وإنما معبرة الى أقصى الحدود، لأنها تحسم الكيفية التي ستدار بها البلاد مدار عمر الحكومة المقبلة.
والصيغة ـ في الحقيقة ـ هي التي تعكس مرآة التوازنات القائمة في البلاد، كما تعكس التفاهمات الاقليمية والدولية المعنية بها.
من هنا، فإن حسم مسألة الصيغة وفق قاعدة (15 + 10 +5) بين المعارضة والموالاة، يفترض أن يكون قد خطا بعملية التأليف خطوة كبيرة ونوعية الى الأمام، وأن يسرّع بالتالي من عملية التأليف، إلا أن هذا الأمر لم يتم.
وما تجدر الإشارة اليه هنا، أن حسم مسألة الصيغة لم يُرضِ مسيحيي الرابع عشر من آذار، ولم يُرضِ البطريرك صفير أيضاً، وكذلك يبدو أن كلاً من القاهرة وواشنطن قبلتاه على مضض، في حين ان الاسرائيلي بقي حتى الأمس القريب يصوّب نيرانه عليه، وبالرغم من هذا كله، بدا أن مشكلة إرضاء هؤلاء يمكن حلها عن طريق توزير ما.
ثانياً: حسم مسألة الحقائب الوزارية، ليأتي بعدها حسم مسألة الأسماء، هذه النقطة تنقل مشكلة التأليف من الإطار الدولي الاقليمي ـ المحلي الواسع، الى الأطر الضيقة الخاصة بحسابات كل طرف، يضاف اليها التوجهات المتعلقة ببعض الحسابات السياسية، هنا بدت المشكلة مسيحية بامتياز، وتتمحور حول ثلاثة عناوين رئيسية: مسيحيو الرابع عشر من آذار، ورئيس الجمهورية، والتيار الوطني الحر، وكل المعركة هنا، أن مسيحيي الرابع عشر من آذار لا يريدون أن يخرج الجنرال عون بربح صافٍ، وبصورة الزعيم المسيحي الأكبر، هم الذين بذلوا كل ما في وسعهم من أجل ضرب هذه الصورة.
الجانب الآخر من هذه المشكلة هو مع الرئيس المكلف الذي لا يستطيع تجاوز ما هو حق طبيعي لعون وفق الصيغة، ولا يريد اغضاب حلفائه القواتيين والكتائبيين، هذا من غير ان نغمض وجهة نظر عون في حصة رئيس الجمهورية أيضاً، حيث يرى أنه أحق منه بوزارة سيادية، ما دام خاض الانتخابات وخسر.
ثالثاً: عقبة الأسماء، هنا العقبة قد تبدو مفتعلة، بل هي مفتعلة فعلاً، إذ من حق كل طرف سياسي أن يسمي من يراه مناسباً، وبالتالي، فإن اثارتها هي للتكتيك والمناورة والابتزاز، ولتحقيق انتصارات شكلية.
رابعاً: البيان الوزاري، الذي يفترض أن يعكس المبادئ والتوجهات السياسية العامة للحكومة التي على إثرها تنال الثقة من المجلس النيابي، وفي هذا الإطار، بدأت بعض الأصوات تأتي من ناحية فريق الرابع عشر من آذار، في محاولة منها لاصطناع مشكلة مسبقة، أو لتحسين شروطها التفاوضية في الحكومة، خصوصاً ما يتعلق منها برفضها من الآن مقاربة موضوع سلاح المقاومة بأي صورة من الصور.
للوهلة الأولى، يبدو هذا المسار طبيعيا، ولا يستبطن ما يقتضي تأخيراً بهذا القدر لتشكيل الحكومة، ما يعني أن العقد الأشد صعوبة تكمن في محل آخر، ولعل أبرزها التالي:
أولاً: المسار الذي اختطه لنفسه النائب وليد جنبلاط، والذي افرز تداعيات بالغة السلبية على وضع الرابع عشر من آذار، وعلى وضع الرئيس المكلف، حيث عدها بمثابة كسر لشوكته ولهيبته، اضافة الى كسر فريق الرابع عشر من آذار. فهذا الفريق شعر بأنه فقد نفسه كأكثرية، وأن وضعه بات أصعب من الأول، وفي وضع لا يحسد عليه، مما أضعف ولا شك موقفه التفاوضي.
هذه النقلة الجنبلاطية فرضت واقعاً لا يمكن تجاوزه، لا سيما بالنسبة للرئيس المكلف الذي شعر بالزلزال الجنبلاطي، ويشعر الآن بنوعٍ من فقدان الوزن السياسي، ما يملي عليه أخذ فرصة من الوقت لاسترجاع هذا التوازن، والبحث عن سبل ذلك سواء من داخل الحكومة، أم من خارجها.
رابعاً: جمود التفاهم السوري ـ السعودي عند ما توصل اليه، واستمرار البحث عن سبل استئنافه وتطويره.
ثالثاً: ضبط عملية التأليف على ايقاع التطورات في المنطقة، فما دام ما سوف يتم دفعه قد قرر فليدفع مؤجلاً، عسى القابل من الأيام يحمل معه، ما يمكن أن يحسن من الظروف، وإن كانت هذه الرهانات خطرة على أصحابها، لا سيما أنهم ليسوا بالقوة التي تؤهلهم لتصريفها لحسابهم.
خلاصة القول هنا، إن عملية التأليف يبدو أنها تمر في مرحلة من انعدام الوزن الداخلي، يفاقم منه جمود التفاهم الاقليمي المربوط بدوره بالآفاق المحتملة لوجهة الأمور في المنطقة، ولذا، فإن التأخير يبدو تقديراً في محله، ولم يدرك الرئيس المكلف ان الاسراع لمصلحته أكثر، إن تطلب دفع تنازلات باتت معروفة.