ارشيف من :أخبار عالمية

واقعية دمشق السياسية ومعالجة العقد مع بغداد

واقعية دمشق السياسية ومعالجة العقد مع بغداد
تفعيل التواصل والحوار الجاد والبناء والصريح  بين سوريا والعراق يعد العامل والمحرك الرئيسي للتقدم الى الامام

بغداد ـ عادل الجبوري

كان مفاجئا الى حد ما البيان الذي اصدرته وزارة الخارجية السورية قبل اسبوع تقريبا وأدانت فيه بشدة العمليات الارهابية التي وقعت في محافظتي بغداد والموصل وتسببت باستشهاد وإصابة عشرات المدنيين.
بعض وسائل الاعلام والاوساط السياسية العراقية وصفت الموقف السوري بشأن العمليات الارهابية بأنه غير مسبوق، وذهبت اخرى الى انه يشير الى مراجعة سورية جدية لطبيعة السياسة التي كانت متبعة حيال العراق طيلة الاعوام الستة الماضية، ورأت وسائل اعلام وأوساط سياسية اخرى إن الموقف الاخير يعد نقطة تحول مهمة لا بد من استثمارها بطريقة مناسبة لتعزيز مسيرة التحولات الايجابية في العلاقات بين بغداد ودمشق، والتي لاحت بوادرها بشكل واضح مع زيارة رئيس الوزراء السوري محمد ناجي العطري للعراق في الحادي والعشرين من شهر نيسان/ أبريل الماضي.
يمكن وصف بيان الاستنكار الرسمي السوري للعمليات الارهابية الاخيرة في العراق بأنه بمثابة المطرقة التي كسرت حالة الصمت العربي "المطبق" حول مشاهد الارهاب الدموي في الشارع العراقي، ولعله أمر ينطوي على دلالات ومؤشرات مهمة ان ينحو التوجه السوري منحى آخر مختلفا تمام الاختلاف عن سابقه.
ربما لم يبعث البيان السوري على ارتياح اطراف رسمية في اكثر من عاصمة عربية، وربما لم يخضع لقراءة متأنية وموضوعية من قبل أصحاب الشأن العراقي، بحيث ان البعض اعتبره نوعا من التمهيد والتهيئة لزيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لدمشق يوم الثلاثاء الماضي، الثامن عشر من شهر آب/اغسطس الجاري.
ولعله من غير الصحيح قراءة تحولات السياسة السورية تجاه العراق من زاوية بيان الاستنكار الاخير، ومن غير الصحيح ايضا ربط صدور البيان بالزيارة المقررة مسبقا للمالكي الى دمشق، لأن ملف العلاقات بين بغداد ودمشق ملف شائك ومعقد، وله امتدادات تأريخية تعود الى ستينيات القرن الماضي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التعامل والتعاطي مع ما يجري وما يحصل اليوم من احداث ووقائع ومواقف بمعزل عن تجاذبات واشكاليات وأزمات الماضي، وإن طرأت على المشهد السياسي العراقي تغيرات جذرية وجوهرية لم تكن ايجابية في كل جوانبها بالنسبة الى دمشق، ولا كانت سلبية في كل جوانبها من وجهة نظرها.
وسبق ان قلنا في مقال تحت عنوان (الرؤية الجديدة للعلاقات بين بغداد ودمشق)، "لا شك ان أية قراءة او استعراض سريع لمسيرة العلاقات العراقية-السورية خلال عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات، وحتى بعد الاطاحة بنظام صدام قبل ستة اعوام، يكشف عن عمق الاشكالية المستعصية في مسيرة هذه العلاقات، تلك الاشكالية التي يمكن تلخيصها بعبارة "انعدام الثقة"، او بعبارة "نزعة الهيمنة والاستئثار والتآمر".
ولا شك ان مقدارا من الحلحلة والمرونة قد تحقق خلال العامين الماضيين، بحكم عوامل عديدة، بعضها داخلية وبعضها الاخر خارجية مرتبطة بصورة او بأخرى بقضايا اقليمية.
التحسن الكبير في الاوضاع الامنية، وتحقق المزيد من الاستقرار السياسي، وانحسار مساحات الاحتقان والتشنج الطائفي والمذهبي في الساحة العراقية، تعد من بين العوامل الداخلية وراء التحولات الايجابية بقدر معين في العلاقات بين بغداد ودمشق، بينما تعد الاعتبارات والحسابات الاقتصادية والتجارية ومسارات عملية السلام بين العرب و"اسرائيل"، والضغوط الاقليمية والدولية على سوريا، والعلاقات المتأزمة بين الاخيرة وقوى اقليمية-عربية مثل المملكة العربية السعودية، وكذلك العلاقات الايجابية بين دمشق وطهران، عوامل خارجية ساهمت الى جانب العوامل الداخلية المشار اليها في احداث نوع من التقارب السوري العراقي.
بيد ان هذا التقارب يبقى محكوما بعقد واشكاليات تحتاج الى معالجة مقبولة ومنطقية، من بينها احتضان الحكومة السورية عددا كبيرا من قيادات حزب البعث المنحل وكوادره، وتوفير التسهيلات المناسبة لهم للعمل ضد الدولة العراقية، واستمرار تسلل بعض العناصر المسلحة من جنسيات عربية مختلفة عبر الحدود الى الأراضي العراقية لتنفيذ اعمال ارهابية في هذه المدينة او تلك.
ويبدو واضحا ان زيارة رئيس الوزراء العراقي لدمشق تمحورت حول موضوعي الأمن والاقتصاد، وطبيعة الوفد المرافق له أوحت بذلك.
وبما ان حجم المبادلات التجارية بين البلدين يعد جيد نسبيا، وان العلاقات الاقتصادية تسير وتتحرك بوتائر واتجاهات جيدة وصحيحة، وهو ما من شأنه ان يساهم في تعزيز مسيرة العلاقات السياسية، فإن كيفية التعاطي مع ملف الامن يمكن ان يحدد ايقاع الحراك في مسيرة العلاقات بإطارها العامل الشامل.
واذا كانت مطاليب بغداد واضحة ويعرفها صناع القرار السياسي في دمشق، فإن مطاليب الاخيرة لا تبدو بنفس القدر من الوضوح، لانها من الممكن ان تفهم من قبل اوساط عراقية عديدة على انها تدخل في الشؤون الداخلية، او محاولات لصياغة وفرض معادلات سياسية معينة واشراك قوى سياسية مرفوضة ومحظور نشاطها وعملها وفق الدستور، كما هي الحال بالنسبة لحزب البعث المنحل.
وهذه القضية هي في جانب منها انعكاس لمعادلات وصراعات وحسابات اقليمية معقدة ومتداخلة تلقي ببعض ظلالها على العراق، كما تلقي ببعض ظلالها على بلد تتشابه ظروفه وأوضاعه السياسية مع الظروف والاوضاع السياسية في العراق.
ومن المفروض على كلا الطرفين ان يُقرا بحقيقة استحالة التوصل الى حلول ومعالجات سحرية سريعة ومرضية لكليهما بالكامل، ولكن تفعيل التواصل والحوار الجاد والبناء والصريح يعد العامل والمحرك الرئيسي للتقدم الى الامام، وتقليص هوة الاختلافات والتقاطعات، وتوسيع مساحات وآفاق التوافق والالتقاء، وقد تكون واقعية دمشق السياسية احد مفاتيح ذلك التواصل والحوار الجاد والبناء، فما كان قائما بالامس لم يعد له وجود اليوم، لا في بغداد ولا حتى في دمشق.
2009-08-22