ارشيف من :أخبار عالمية

إيران.. تعبر الأطلسي.. إستراتيجيا

إيران.. تعبر الأطلسي.. إستراتيجيا

صحيفة الشرق القطرية/ طلعت رميح

في الأيام الأخيرة، قام الرئيس البوليفي ايفو موراليس، بزيارة إلى إيران رأى الكثير من المراقبين أنها تأتي ضمن إطار تنمية علاقة إيران بالنظم اللاتينية المتصارعة مع الولايات المتحدة، إذ كان السبب المباشر للزيارة هو إتمام صفقات بين البلدين لمعالجة اثار العقوبات الأمريكية على كليهما. وفي الأيام الأخيرة أيضا، بدأت الدوائر الأمريكية والإسرائيلية تتحدث عن تحول العلاقات بين إيران وفنزويلا إلى درجة التحالف الاستراتيجي، حتى وصل الأمر إلى اتهام فنزويلا بأنها أصبحت قاعدة انطلاق لإيران وحزب الله في أمريكا اللاتينية. والتطور الجاري في علاقات إيران مع دول تعبر المحيط الأطلسي للتواصل معها، ليست حالة غير مسبوقة في العلاقات الدولية بطبيعة الحال، لكنها في الحالة الإيرانية ذات دلالات مهمة للغاية، في حد ذاتها وفيما تعكسه بشأن ملامح الاستراتيجية الإيرانية وتوجهاتها وعوامل قوتها وشمولها وتوسعها. في الجانب المباشر يبدو أن إيران اختارت أن تتواصل مع دول تستهدف التعاون معها إحداث حالة ضغط على الخصم الاستراتيجي لإيران في اخطر نقاط سيطرته دوليا. أو لنقل إن إيران خططت أن تقابل حصار الولايات المتحدة لها في محيطها الإقليمي، بنمط من العلاقات المضادة مع دول في محيط الهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية بما يمنحها عوامل قوة في إقليمها هي، وفى ذلك يمكن القول بان إيران قد نجحت فيما اخفق فيه النظام الرسمي العربي، الذي رغم كثرة إشارات أمريكا اللاتينية له بضرورة التعاون المشترك- الآن ومنذ فترات زمنية طويلة سابقة - لم ينجح هذا النظام في مد خطوط التواصل على هذا المستوى الذي وصلت إليه إيران مع أمريكا اللاتينية. لقد عاشت بلدان تلك القارة حالة ثورية كبرى في الخمسينيات والستينيات وهو ذات زمن الاستقلال والثورية في الحالة العربية. لكن الأمور بين الطرفين لم تتخطى حدود الدعم والتأييد الإعلامي والسياسي إلى درجة التعاون الاستراتيجي إلا في حالات مبسطة ووقتية وكان اغلبها يتعلق بعمليات التصويت في الأمم المتحدة، أو بالدقة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. لكن الأهم والأبعد من هذا الجانب الاولى، هو ما يطرحه أمر العلاقات المتطورة لإيران من خلال عبور المحيطات مع مختلف الإطراف الإقليمية والدولية،وفق استراتيجية واضحة ومحددة،يجرى العمل بدأب على إنفاذها منذ سنوات طويلة.

ففي الوقت الذي عبرت إيران المحيط، فهي كذلك عبرت إلى أكثر من موقع في إفريقيا. إذ تتحرك إيران بشكل واضح نحو علاقات إيرانية واسعة في إفريقيا إلى درجة التواصل مع نيجيريا – مثلا – حول تصدير التكنولوجيا النووية الإيرانية لها في مجال الطاقة الكهربائية. كما أن إيران تتحرك باتجاهات عديدة في محيطها الإقليمي الأبعد، سواء باتجاه روسيا أو الدول التي كانت من قبل تحت عباءة الاتحاد السوفييتي السابق أو باتجاه باكستان والهند أو باتجاه الصين ودول ميثاق شنغهاى، أو باتجاه المنطقة العربية في أكثر من موقع وموضع، أو باتجاه تركيا وبطبيعة الحال تجاه خصمها الاستراتيجي "إسرائيل". ولعل ما يطرح دلالات أخرى وأبعادا ذات طابع دولي مهم للاستراتيجية الإيرانية، هو أن إيران تحاول جاهدة أيضا استعادة دور ونشاط دول عدم الانحياز، كما ظهر مؤخرا في انعقاد مؤتمرها الإحيائي في طهران، وكذا أن إيران ومنذ بداية ثورتها طرحت أفقا إسلاميا عاما لإستراتيجيتها، ظهر جليا في استضافة قمة منظمة المؤتمر الاسلامى في وقت مبكر ووفق زخم سياسي وإعلامي اظهر المنظمة وكأنها جاهزة لتكون بناء دوليا كبيرا مختلفا عن تلك النظرة التي كانت سائدة حول تلك المنظمة، إذ سعت إيران لتحويلها من منظمة نشأت لمواجهة حدث حريق المسجد الأقصى، إلى منظمة طموحة إلى بناء كيان إسلامي دولي.

فكيف نرى استراتيجية إيران وما هي محدداتها وحدودها؟

شواهد استراتيجية

واقع الحال، إن أهم مفاتيح فهم الاستراتيجية الإيرانية - والتي تحتاج لدراسات لا إلى مقالات حال دراستها تفصيلا - هو أن إيران امتلكت الإرادة على مستوى شامل، سواء في وضع الدراسات الاستراتيجية أو متابعة إنفاذها، ومن خلال إدارة استراتيجية لمستوياتها ومحدداتها تجمع بين الذكاء في الحركة والإرادة في المواجهة. وكما أنه لا استراتيجية دون إرادة، فان أهم ما امتلكته إيران وما تزال.. هي الإرادة.

ولعل المفتاح الثاني في فهم هذه الاستراتيجية، هو أننا أمام دولة شهدت استقرارا في بنائها السياسي وتسلسل سلطاتها وحالة الانسجام في إدارة مقومات قوتها الداخلية والإقليمية والدولية، بما حقق لها حالة من الاستقرار والتواصل لخططها الاستراتيجية وإنفاذا لمراحلها المتتالية دون ارتباك أو انقطاع أو انقلاب على بعضها البعض، مهما كانت التعديلات التي تدخل عليها استجابة للظروف والضغوط والمستجدات. لقد تميزت الاستراتيجية الإيرانية بالثبات في أطرها العامة ونمط إدارتها،ولم تعش الحالة العربية المعروفة. أو لم تصب بالمرض العربي الأشهر، إذ من يصل إلى الحكم يعيد تغيير كل شيء في الدولة والمجتمع – بل حتى يعيد كتابة التاريخ- وكأنه جاء من فراغ ويبنى في فراغ،بما جعل دولنا تشهد انقلابات وتبدلات سياسية دون انجازات ذات طابع استراتيجي إلا فيما ندر.

والمفتاح الثالث في فهم الاستراتيجية الإيرانية، هو أنها اعتمدت – كما يبدو من خلال قراءة خطواتها واستنتاج اتجاهات حركتها – على ثلاثة مفاهيم حددت الإطار المرجعي العام لكل خططها واتجاهاتها وحركتها ومراحلها، بما وفر لها نسيجا متماسكا من الثبات والتجدد دون تبديل.

المفهوم الأول: هو أنها اعتمدت الإطار المذهبي (داخل إطار المنظومة الإسلامية بطبيعة الحال) ومن خلاله تمكنت إيران على نحو ما، من استنهاض قوى مجتمعية كانت خامدة قبلا في مجتمعات ودول أخرى، لتصبح رصيدا استراتيجيا وقوى مساندة لسياستها أو منفذة لإستراتيجيتها كعامل قوة في دول ومجتمعات عديدة فى المحيط بما أضاف للقوة الذاتية الإيرانية قوى بعضها ذو تأثير حاسم في تعظيم القدرة الإيرانية وإنفاذ استراتيجيتها في الإقليم. وإذا كان المثال الأبرز هو ظاهرة حزب الله، وهذا الجهد المتنامي والمدروس الداعم لتلك الظاهرة عبر سنوات طوال بدأت من الصفر تقريبا وتحولت به إلى قوة كبيرة التأثير فى لبنان والمحيط، فقد تحولت إيران من خلاله إلى لاعب إقليمي على أكثر من صعيد، إذ أصبحت إيران في موقع المواجهة المباشرة مع خصم إقليمي لها هي إسرائيل، كما أصبحت إيران صاحبة دور مباشر ريادي وقيادي في الإقليم العربي، وكذا هي أصبحت في وضع القادر على بناء تحالف إقليمي يحقق استراتيجيتها ويحقق لها الحضور والقدرة على الصراع دفاعا عن نفسها من خارج أرضها بامتداد هذا التحالف من حدودها إلى سوريا ثم لبنان.. الخ. وهكذا الحال في الدور الإيراني في أفغانستان والعراق وفى دول عربية أخرى، الذي مثل نمطا من اعتماد هذا الفهم و البناء على هذا البعد لتحويل إيران إلى دولة ذات قدرات استراتيجية في الإقليم اعتمادا على مقومات من داخل الدول الأخرى، الممتدة من باكستان وحتى حدود تركيا.

المفهوم الثاني، هو أن إيران اعتمدت نمطا من التحالفات شديدة البراجماتية في علاقاتها الدولية، فلم تدخل الخلافات العقائدية و الايديولوجية في حسابات المصالح مع الدول الأخرى. المثال الأبرز لهذا النمط من البراجماتية، هو ما جرى من تحالف أو تقاطع مصالح بين إيران والولايات المتحدة، خلال غزو واحتلال العراق، إذ رأت إيران أن من صالحها استراتيجيا الإطاحة بنظامي طالبان وصدام حسين، كما هي -من بعد- لم تستنكف التعاون مع السلطات التي عينها الاحتلال الأمريكي، بل هي من وضعت مخططات لبسط نفوذها – تحتيا – في كل تلك النظم إلى درجة تحولها إلى دولة تمارس لعبة الاحتلال المزدوج، وهو ما جعلها في نهاية المطاف دولة ذات نفوذ ودور في كلا البلدين على حساب قوة الاحتلال الأصلية ذاتها من جهة وعلى حساب القوى الوطنية في كل من العراق وأفغانستان من جهة أخرى. وهو ما حدد صفه عامة لنمط التفكير الاستراتيجي الإيراني فى علاقاتها بدول المحيط وبالقوى الدولية إذ هي قبلت التعاون مع عدوها الاستراتيجي من اجل إطاحة أعداء مباشرين ولتثبيت نفوذها في داخل الدول الأخرى.

المفهوم الثالث والمحدد للإطار المفاهيمي للاستراتيجية الإيرانية، هو أن بناء القدرة الذاتية الذي هو أصل ومحور النشاطات والعلاقات والتحالفات والصراعات جميعها، قد تحول من هدف الى مفهوم. الاهم ان بناء القدرة الذاتية في الحالة الإيرانية انه تحول من هدف إلى مفهوم او إلى إطار مفاهيمي وقيمي، وليس كإطار سياسي واستراتيجي فقط. وفى ذلك يبدو أن دراسة الاستراتيجية الإيرانية للبناء والتطوير الداخلي وتحقيق النفوذ في الإقليم وفى العلاقات الدولية، يحتاج إلى دراسات معمقة حول مفهوم البناء الذاتي وليس فقط حول اعتماد البناء الذاتي هدفا وخطة استراتيجية. وفى هذا التحول بالهدف إلى درجة المفهوم يبدو الأمر ناتجا – باختصار - عن رؤية مفاهيمية ذات جذور، وأبعاد تاريخية تتعلق "بالمظلوميات" والإرث التاريخي الذي جعل خطة بناء دولة لهذا "المذهب" ترتقي من الهدف إلى المفهوم. والفارق أن بناء الدولة هنا يرتبط بصراع مفاهيمي لا بصراع حول القدرات ويتعلق بمعالجة موروثات وتحديها لا بمجرد بناء دولة قوية... الخ.

شمولية التخطيط

وواقع الحال، إن الاستراتيجية الإيرانية إذ امتلكت تلك العوامل والمفاتيح وإذ اعتمدت تلك المفاهيم، فإنها اعتمدت غطاء شاملا ومتوسعا من التخطيط من الإقليمية إلى الدولية، بما أفاد تلك الاستراتيجية في إنفاذها، من زاوية توفير المزيد من البدائل المتعددة للحركة دون ارتباك في المناورة وبما منح القدرة على تحقيق المكاسب في معظم الأوقات. ذلك أن احدى مشكلات التخطيط "العربي" في مراحل عديدة، كانت تحديدا في ضيق رقعة التخطيط والتفكير والانطواء إلى نمط من الإقليمية، وربما المحلية في بعض الأوقات، بما ضيع فرصا كانت سانحة في الوضع الدولي في مراحل عديدة،كان يمكن في حال التفكير المسبق باحتمالات حدوثها، أن تحقق للعالم العربي الكثير من المكاسب التي كانت بدورها تحقق له حضورا دوليا متزايدا في التأثير وفق دورة متوسعة في التأثير الدولي ونمو القدرة الذاتية في ذات الوقت.

وإذا كنا بدأنا التحليل بالإشارة إلى هذا التواصل الاستراتيجي بين إيران و دول أمريكا اللاتينية، فذلك نموذج مهم ومثال للقدرة على اختراق المسافات والوصول إلى مساحات من المناورة و الانجاز. وفى القراءة المتأنية للسلوك الإيراني يظهر أن إيران قد وضعت استراتيجيتها على نحو شامل وفق قراءة دقيقة للوضع الدولي، حتى يمكن القول بان الاستراتيجية الإيرانية لمفهوم البناء الذاتي، قد ارتبطت برؤية للتحول إلى قطب اكبر من أن يكون إقليميا، وقد يصل إلى مستوى التأثير الدولي، والى درجة تدفع للتوقع أن إيران ستدخل في مرحلة لاحقة في صراع حول، طلب تمثيلها في مجلس الأمن الدولي،كدولة دائمة العضوية.

إن ملامح الرؤية الإيرانية، التى يظهرها نمط التحرك الإيراني إلى ما بعد الإقليم، وكذا المبررات التي تسوقها إيران بشكل متصاعد لأسباب امتلاكها لعوامل القوة التكنولوجية والتسليحية، ونمط البناء والتطوير للعلاقات الدولية لإيران، كلها تشير، من زاوية النظر الأبعد والأشمل إلى أن إيران تستهدف التحول إلى قطب دولي وليس إقليمي فقط،حتى وان بدا الأمر الآن حلما ووضعا غير واقعي في ظل التوازنات الدولية القائمة الآن،لكنه قد يكون قابلا للتحقيق في إطار التغيرات الجارية في الوضع الدولي، وفي ظل الصراعات الإقليمية المتحولة الآن باتجاه تفكيك العديد من الدول، وفي ضوء تصاعد القدرات الإيرانية مع الإخلاء المتصاعد لعوامل القوة لدى أطراف ودول إقليمية تنافسها على هذا التمثيل الدولي.

2008-09-07