ارشيف من :أخبار عالمية

لم تجتمع معهم على مائدة واحدة منذ سنوات

لم تجتمع معهم على مائدة واحدة منذ سنوات

رام الله -"الانتقاد.نت"

اعتاد المتابع لقصص الصمود الفلسطيني أن يشهد ألواناً من الصبر تحاول عائلات الشهداء والأسرى والجرحى والمبعدين التحلي بها، وفي كل مرة يظن أنه لن يشهد قصصا مؤلمة مماثلة، لكنه يفاجأ بعد وقت قصير بأن حكايات أخرى تفوق التوقعات.أم ناصر أبو حميد أصبحت بطلة لقصة نسج أركانها الاحتلال، فبعد أن اغتال ابنها عبد المنعم أبو حميد عام 1994 حين كان طالباً جامعيا، مضى في اعتقال سبعة من أبنائها، وأسبغ عليهم سيل اتهاماته وأحكامه المرتفعة غير مكترث بقلب أمهم الذي تحول إلى مكان ينضح بالذكريات ويعيدُها شوقاً إليهم.لم تجتمع معهم على مائدة واحدة منذ سنوات

ذكريات الاعتقال

وكانت البداية حين اعتقل جيش الاحتلال نجلها الأكبر ناصر (37 عاما) من بيته في مخيم الامعري قرب رام الله خلال الانتفاضة الأولى، ثم حكم عليه بالسجن المؤبد سبع مرات إضافة إلى خمسين عاماً، لكنه أفرج عنه بعد أعوام قليلة في حملة إفراج عن بعض الأسرى، ولم يكد يتنفس الصعداء خارج السجون بالتخلص من الحكم الطويل ذاك، حتى أعاد الاحتلال اعتقاله وفرض الحكم ذاته عليه عام 2002 أثناء اجتياح الضفة الغربية.

وتقول أم ناصر إن حزنها عاد ليطفو على سطح أمومتها الجريحة، ولكن مواعيد أخرى للألم كانت تنتظرها، فبعد فترة قصيرة من العام ذاته اعتقل جيش الاحتلال أبناءها نصر (35 عاما) وحكم عليه بالسجن المؤبد خمس مرات، وشريف (28 عاماً) وحكم عليه بالمؤبد أربع مرات، ومحمد (25 عاما) وحكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات إضافة إلى 30 سنة، أما إسلام فحكم عليه الاحتلال بالسجن لمدة خمس سنوات ونصف.

ورغم أن تلك الأرقام الخيالية تكاد تكون مبتكرة من شدة تطابقها وغرابتها، إلا أن احتلالاً ظالماً ما زال جاداً في تنفيذها، فهو يحتجزهم منذ ثمانية أعوام في سجونه حتى زجهم جميعا في النهاية بسجن عسقلان، فأمسوا يحاكون ظلمة سجنهم باجتماعهم سوية ويذكرون أياماً وردية كانوا يعيشونها، بعد أن لم يتردد سجّانهم أيضا في هدم منزل عائلتهم بالمخيم مرتان.

"متى يعود أبي؟"

وتوضح أم ناصر أن ولدها نصر المحكوم بالمؤبدات الخمسة هو الوحيد المتزوج من بين أبنائها الأسرى، ورغم ذلك لم تتوان أيادي الاحتلال عن انتزاعه من بين أسرته الفتية، فأطفاله رائد (عشر سنوات)، وعائد (سبع سنوات) ما زالوا حتى الآن ينتظرون عودته متسائلين عن الذنب الذي اقترفوه كي يغيب والدهم عن أنظارهم، فتكتفي والدتهم بالإجابة أنهم فقط فلسطينيون.تلك الكلمة إذاً كفيلة في أن تشرح جميع قصص المعاناة التي عايشها كل من التصق اسمه بها، فأصبح الولدان يفهمان أن حاملها لن يعيش بسهولة لأنه آثر حياة أفضل، أما شهر الرحمة فأمسى لديهما مناسبة لذرف الدموع محاكاةً لوالدتهما.وتضيف أم ناصر:" أصبح الطفلان كلما تناولوا الإفطار يذكرون والدهم، ويسألون والدتهم عنه، فتنزل دموعها دون وعي، وإذا تناولوا الطعام لدى أحد من أقاربهم شعروا بحزن أكبر لأن أباهم لا يشاركهم تفاصيل حياتيهما".

وتجد أم ناصر صعوبة في الحديث مع زوجة ابنها عند أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك في كل عام، مبينة أنها لا تجد الكلمات المناسبة التي قد تشفي صدرها سوى عبارات التشجيع المتعارفة والتوكل على الله في محنة كهذه.

الإفطار دون طعم

ومع حلول الشهر الفضيل تعود الأم الجريحة لتذكر أياماً أكثر جمالاً بصحبة أبنائها كلهم، ولكنها تتفاجأ في كل مرة عندما تكتشف أنها لم تجالس أبناءها جميعهم على طاولة واحدة مذ أصبحوا رجالاً إلا مرة يتيمة.

وتتابع:" في تلك المرة الوحيدة التي جلسنا فيها على المائدة أخذ أبنائي بالضحك، وعندما سألتهم عن السبب قالوا: لأننا لم نتذكر أننا جلسنا سوية إلا هذه المرة منذ زمن، وبعدها لم نجتمع كلنا لتناول الطعام".
لم تجتمع معهم على مائدة واحدة منذ سنوات
وربما ترجمت ضحكاتُ أبنائها آنذاك سنواتٍ لاحقة من الفرقة والغياب والابتعاد، ولم يخلّف ذلك لدى والدتهم سوى إحساس بأن الطعام لم يعد ذا طعم ولا رائحة ولا لون، ولم تعد هي تكترث بتناول الطعام كالسابق، بل إنها لا تفرّق بين ما تطهوه على مائدة الإفطار التي أصبحت شبه خالية.

وتؤكد أم ناصر أن الحزن الذي يتكرر مع كل مناسبة مثل شهر رمضان لا يقل عن كل مرة استناداً للاعتياد على غياب أبنائها، بل تشدد على أن الحزن يشق طريقه أكثر عمقاً في كل مرة، فالأمل تقل خيوطه مع مرور السنوات وإن كانت العزائم ثابتة لا يمسها شائب.

حتى الصوت ممنوع

وقد يعتقد الكثيرون أن ممارسات الاحتلال وصلت أوجها مع هذه العائلة، ولكنهم ربما يفاجأون في هذه الجزئية بالذات، فإدارة السجون تمنع عائلة الشبان الخمسة من زيارتهم، وتسمح لزوجة الأسير نصر بزيارته مرة واحدة كل عام لمدة لا تزيد على خمسة عشر دقيقة فقط..

وتلفت أم ناصر إلى أنها منعت من زيارة أبنائها خلال فترة ما تحت ذريعة الرفض الأمني، ولكنها عادت لزيارتهم في فترات متباعدة جدا، موضحة أنها تصطحب أطفال نصر معها لرؤية والدهم.

وتضيف بتنهّد :" حتى صوتهم ممنوع علينا سماعه، فبعد أن منعونا من زيارتهم، يمنعونهم من التحدث إلينا عبر الهاتف، ولا نسمع أخبارهم سوى من زيارات المحامين لهم والتي تكون متباعدة، فعلمت منهم مرة أن ابني شريف مريض ولم يقدموا له سوى المسكن، وننتظر بفارغ الصبر أي خبر يطمئننا عليهم".

ثم تردف بشيء من العزم:" عندما لا يكون لدى الأم أي من أبنائها حولها فإنها لا تشعر بأي طعم للحياة، وتريد دوماً أن يكونوا إلى جانبها، لذلك أحتسب كل ما يحدث لي عند الله تعالى، وما من عائلة فلسطينية إلا ولديها أسير أو شهيد والحمد لله على كل حال".

2009-08-26