ارشيف من :آراء وتحليلات
زيارة ساركوزي إلى دمشق والقمة الرباعية فيها: تأسيس لمسار جديد في لحظة الانتظار الصعب اقليمياً ودولياً

كتب مصطفى الحاج علي
ليس بالأمر المفاجئ ولا المستغرب أن تأخذ زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى دمشق وعقد قمة رباعية فيها شملت تركيا وقطر إلى جانب فرنسا وسوريا، هذا الاهتمام، السياسي والاعلامي، فالزيارة كما القمة حدث سياسي استثنائي لأكثر من اعتبار يبقى أبرزها ما يلي:
فرنسا تستثمر الإخفاق الاميركي
أولاً: ان الزيارة ـ كما القمة ـ تقع في مسار الاخفاق الاميركي في المنطقة، الممتد من جورجيا فأفغانستان فالعراق، وصولاً إلى فلسطين ولبنان. هذا الاخفاق من لوازمه التغيير في توازنات القوة ومعادلاتها التي تحكم المشهد الاقليمي والدولي اليوم، ولولا هذا الاخفاق لما وجدت الفرصة الملائمة لمجمل القوى الفاعلة دولياً وإقليمياً لتعيد حساباتها وتقوّم سياساتها بما ينسجم والتعبير المستجد. ففرنسا ـ شيراك التي ألحقت نفسها طويلاً بالسياسة الاميركية في المنطقة عموماً ولبنان تحديداً، تجد نفسها مضطرة مع ساركوزي لرسم مسار مختلف كي لا تضطر إلى دفع الأثمان نفسها التي تدفعها واشنطن اليوم، من دون أن يعني ذلك أن باريس هي في وارد القطيعة مع التطلعات الاستراتيجية الاميركية، بقدر ما هي في مرحلة بلورة سياسات جديدة ترى أنها أصوب لإنجاز المطلوب.
باختصار، ان باريس ـ ساركوزي تغيرت أو هي ـ على نحو أدق ـ في مرحلة رسم مسار متغير لسياستها في المنطقة عموماً ومع سوريا تحديداً، سياسة تقوم على مبدأ الخطوة خطوة، والخطوة في مقابل كل خطوة مقابلة.
ولا شك في أن زيارة ساركوزي ـ كما القمة ـ لم تتوقف على تغير باريسي فحسب، وإنما أيضاً على تغير ما حدث في دمشق أيضاً، لعل من أبرز علاماته هو الموافقة السورية على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع لبنان، واستئناف المفاوضات غير المباشرة مع الكيان الإسرائيلي.
اذن، تغيير متبادل حدث هو الذي أوجد الفرصة الملائمة للتلاقي.. فالزيارة.. فالقمة.
دوافع الزيارة والقمة
ثانياً: ان نفس مضمون التغيير هو الذي يؤسس دوافع الزيارة والقمة، فباريس الباحثة عن دور في المنطقة، ليس بالضروري صدامياً مع واشنطن، ما دامت الأهداف واحدة في النهاية، وباريس الحريصة على أوضاع ملائمة لأمنها القومي في الشطر الشرقي في المتوسط، لا تستطيع إغفال فرصة لمد جسور في العلاقات الايجابية مع دولة أو دول فاعلة على المتوسط.. كما أن باريس ـ ساركوزي المسكونة بالتهديد الارهابي سبق أن وجدت في دمشق عوناً ومعيناً مهماً، وبالتالي لا تستطيع أن تدير الظهر هكذا لأمرٍ بالغ الأهمية لأمنها الداخلي.
أضف إلى ذلك، ان باريس التي قرأت بإمعان ما نسب إلى الرئيس السوري من أقوال أثناء لقائه الرئيس الروسي مؤخراً، والتي أعلن فيها استعداده للتعاون مع البحرية الروسية من خلال تطوير مرفأ اللاذقية، وأن سوريا مستعدة لاستقبال منظومة صواريخ متطورة، باريس هذه تدرك التداعيات الخطيرة في ما لو شقت هذه المواقف طريقها نحو التنفيذ، لا سيما على صعيد الاستقرار في منطقة هي في نطاق الأمن القومي الأوروبي.
ومن جهتها دمشق التي تعرضت لسياسة الحصار والتضييق الاميركية والاوروبية، وحتى من بعض العرب، منذ أكثر من ثلاث سنوات، هي في أمسّ الحاجة لالتقاط فرصة تستطيع من خلالها كسر هذا الحصار، وفك العزلة المضروبة من حولها دولياً، بما يعزز أكثر من موقعها ودورها في خريطة المنطقة. فالوجه الآخر لفك العزلة هو ما يحمله من إعادة الاعتبار لموقع ودور سوريا في المنطقة، وأن هذا الموقع وذاك الدور لا يمكن تجاوزهما: وهذا بدوره يعيد نسج شبكة أمان دولية للنظام، لا سيما في مواجهة الضغوط المتنوعة التي تعرض لها، والتي كانت تهدده بالتغيير أو السقوط.
الأهداف المرتجاة للزيارة والقمة
ثالثاً: لقد سبق لقاء الأسد ـ ساركوزي، وكذلك انعقاد القمة، الكثير من القراءات والمواقف التي حاولت أن تضعهما في سياق المحاولات الهادفة إلى ابعاد سوريا عن ايران.. ومن ضمن منظور أشمل يستهدف تفكيك حلقات المقاومة والممانعة، وعزل بعضها عن البعض الآخر، لإضعافها وصولاً إلى الإجهاز عليها.. هذا الهدف لا يبدو واقعياً إذا ما نظر اليه الآن، حتى أن الرئيس الفرنسي نفسه حاول التقليل منه، عندما أشار إلى أن الخيار بالنسبة إلى دمشق تدور بين استمرار علاقاتها مع ايران وعلاقاتها مع أوروبا، بل يمكن لسوريا أن تستمر في علاقاتها مع ايران، وأكثر من ذلك فإن فرنسا نفسها تحاول ان توظف العلاقة القوية والوثيقة القائمة بين سوريا وإيران، في سياق الوساطة الأوروبية ـ الإيرانية حول الملف النووي الإيراني.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك الآن، فعلامَ الرهان إذن بالنسبة الى إبعاد سوريا عن إيران؟
يبدو الرهان الفعلي قائماً على مسألة المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، وهذا الرهان ليس أوروبياً فحسب، وإنما اسرائيلي أيضاً.. واليوم ترتفع داخل الكيان الإسرائيلي أصوات تطالب بالإسراع في نقل المفاوضات من إطارها غير المباشر إلى إطارها المباشر، لأن من شأن ذلك التسريع تعميق الخلاف الإيراني ـ السوري في تصور هؤلاء.
ان فحصا دقيقا لهذا الرهان يكشف عن أنه توجه أكثر منه امكان فعلي اليوم، حيث ان كل الظروف الخاصة سواء بالاسرائيلي أو بالسوري، لا تبدو ملائمة لإنجاز تسوية ما.. وكما هو صحيح فإن سوريا ترحب بدور فاعل أوروبي عبر باريس في المفاوضات.. الا أن من الصحيح أيضاً أن سوريا تعرف تمام المعرفة أن ضمانة نتائج أو تنفيذ نتائج أي تسوية في حال حدوثها، متوقعة على الدور الاميركي في المفاوضات، وبالتالي ثمة مرحلة انتظار تمتد إلى ما بعد الانتخابات الاميركية، وجلاء التوجهات السياسية للإرادة الاميركية الجديدة قبل وضوح مسار الأمور، هذا إلى جانب التعقيدات الخاصة بعملية التفاوض نفسها، التي كما يعلم الجميع ستكون أوسع بكثير من ملف احتلال الجولان، نظراً لتداعيات على مجمل الأوضاع في المنطقة.
من هذا، قد نكون أمام مرحلة فحص وسبر الامكانات والاحتمالات واستكشاف الفرص، وتبيين معالم وحدود وآفاق الصفقات والأثمان الواجبة على كل طرف أن يدفعها.
اذن نحن أمام مسار لم تتوافر له كل الظروف والإمكانات الضرورية لاكتماله، وبالتالي نحن أمام عملية في بداية الطريق، ولن تتوضّح معالمها الا مع الوقت، وهو بالتأكيد ليس بالقليل. ويمكن وضع هذه العملية في سياق إيجاد الظروف الملائمة لملاقاة التوجهات الجديدة للإدارة الاميركية الجديدة، التي يرشح كثيرون بأنها ستعتمد توصيات بيكر ـ هاملتون كسياسة عامة لها في المنطقة.
في المدى المنظور يبدو الملف النووي ـ الايراني واحتمالات ذهاب الأمور إلى المواجهة سواء عن الطريق الإسرائيلي أم الطريق الاميركي، كلايهما معاً، قد يكون هو الملف الأكثر الحاحاً، وبالتالي فإن الزيارة كما القمة، تشكل مناسبة لتوجيه الرسائل، وربما للمناورة أيضاً.
الانتقاد/ العدد1297 ـ 9 أيلول/ سبتمبر 2008