ارشيف من :آراء وتحليلات

حدث في مقالة: المصالحة الطرابلسية هدنة مراجعة حسابات؟ أم أمر آخر؟

حدث في مقالة: المصالحة الطرابلسية هدنة مراجعة حسابات؟ أم أمر آخر؟
كتب مصطفى الحاج علي
المصالحة الطرابلسية مهمة بذاتها ولذاتها، لأن أي عافية تصيب جزءاً عليلاً من جسم الوطن تصيب الجسم كله، ولذا ما جرى يستحق الثناء وشد الأيدي عليه، إلا أن هذا كله لا يعفي من القراءة السياسية لهذا التطور، بل للقراءة هنا أهمية استثنائية، لأن من شأنها أن تحصن هكذا نوع من المصالحات، وتوفر لها الشروط الضرورية للاستمرار.
السؤال البديهي الأول الذي يواجه أي متتبع لما آلت اليه الأمور في الشمال هو التالي: ما هي الأسباب والظروف، ومن هي الجهات التي وظفت هذه الظروف واستخدمت هذه الأسباب لإيصال الأمور إلى ما وصلت اليه؟ ثم ما هي الأسباب التي دفعت هذه الجهة أو تلك للقيام بالمصالحة، وفي هذا التوقيت بالذات؟
الجميع يتفق على وجود دورٍ فاعلٍ ورئيسي للعوامل الاقتصادية والاجتماعية، ولفقدان خطط وبرامج تنموية تراعي طبيعة المنطقة وجغرافيتها وديموغرافيتها والأولويات الحاكمة على كافة المستويات، وهذا الفقدان مزمن وتاريخي، حيث يشارك الشمال كطرف، كل الأطراف الباقية في لبنان، حالة من الحرمان المزمن المتصلة بعمق بطبيعة النظام الطائفي في لبنان، الذي لا همّ له سوى المركز، والباقي مجرد هوامش وتوابع، كل هذه العوامل، تشكل في الحقيقة الشروط المادية والموضوعية لإثبات التناقضات الاجتماعية والسياسية، أو هكذا يفترض في ما لو تركت دون تغذية تشويهية لماهية الصراع، عندما قيل، ومن باب المفارقة: إن الفرقاء يقاتلون بعضهم بعضاً في الشمال، لم يكن هناك مغالاة، إلا أن المنطق الطبيعي يفترض أن يتوحد الفقراء في مواجهة من يقوم بإفقارهم وسلب اخوانهم، بل ويحرص على ابقائهم في حالة العوز والارتهان الريعي لهذا الثري أو ذاك.
اذاً، لماذا لم يتوحد هؤلاء الفقراء؟ ولماذا وجدوا أنفسهم في مواجهات دموية مع بعضهم البعض؟ من هو مصدر حرف الصراع، ولمصلحة من؟
هذا السؤال جرى القفز عنه، لأن الاجابة الصريحة والصحيحة، تقتضي أن تأخذ الأمور وجهة أخرى، بمعنى يقتضي اعادة تشخيص الخصم والعدو الحقيقي.
لا شيء يكسر حقيقة ووجع الفقر، إلا العصبيات الدينية أو المذهبية، لأنها وحدها تعيد وضع الصراع في إطار المقدس، والمتعالي، الذي بدوره وحده القادر على أن يأخذ بالفقير إلى خارج فقره، ليتماهى مع عنف مقدس في مواجهة عنف مقدس، إنه التشويه الأخطر، والحرف الأقصر بالصراعات عن سكتها الموضوعية والسياسية، نعم، على ما في الذاكرة من آلام بين العلويين والسنة في الشمال، وعلى ما هناك من ريبة وحذر في العلاقة بين الاثنين، إلا أنها ليست شروط كافية لتوليد خطوط تماس دموية بين الاثنين، لكن ما يحدث أن من يريد تشويه طبيعة ومضمون الصراعات وحرف بوصلتها، يستغل هذه الذاكرة، وتلك الريب، لإثارة الظنون التي هي مدعاة كل فتنة، لبث الشكوك، والظنون لواقح الفتن، ولنرى الآن من مصلحته ألا تبين  حقيقة الصراع ولا طبيعته؟ من مصلحته الفعلية اصطناع خطوط تماس مذهبية هنا وهناك وهنالك؟ من المستفيد الأكبر من كل هذا الذي جرى، ومن هو ـ في وهمه على الأقل ـ أنه مستفيد؟
أولاً: لا شك، أن العدو الاسرائيلي هو المستفيد الأول، لأن هذا العدو يهمه أن تبقى كل دول المنطقة لا سيما المحيطة به ممزقة بالصراعات الداخلية، ومهيأة للتقسيم والانقسام إلى كانتونات، ليبقى هو الكيان الأقوى والأبقى.
ثانياً: إن قوى اقليمية عربية ـ للأسف ـ تسهر منذ مدة على بث الفرقة بين المسلمين تارة بين السنة والشيعة، وتارة بين السنة والعلويين، وبات دأبها اتهام كل من يخالفها حتى لو كان من أهل السنة بأنه شيعي، هذه القوة توهمت أنها بذلك تستطيع أن تخرج مئات الملايين من المسلمين من وصف الاسلام، وأن تجيش مئات المسلمين في مواجهتهم، من خلال تقديم نفسها بأنها تدافع عن مصالح السنة في العالم، وهي في الحقيقة تخلط مصالح السنة بمصالح الاميركي حتى لا نقول الاسرائيلي، لأن تهمة من تعلن الحرب عليهم باسم الاسلام السني، والاسلام السني منها براء، هي أنهم قاتلوا الاميركي والاسرائيلي، وعطلوا مشاريعه وفازوا عليه. هؤلاء ظنوا للوهلة الأولى أنهم بتجييش العصبيات المذهبية يستطيعون أن يحفظوا لأنفسهم آخر خط دفاع عن المشروع الأميركي في المنطقة، إلا أنهم وقعوا في شرِّ أعمالهم.
ثالثاً: هناك قوى داخلية انساقت مع لعبة القوى الاقليمية الآنفة، يدفعها أكثر إلى ذلك تماهي مواقعها ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية مع هذه السياسة، بمعنى أنه بقدر ما يجري تعطيل البعد الاقتصادي ـ الاجتماعي للصراع من شأن ذلك، أن يوفر لها صمام أمان لمشاريعها الاقتصادية المتماهية مع مشروعها السياسي الداخلي.
من هنا، لا يكفي مجرد إعلان المصالحة بالشكل الذي تمت به، بل لا بد من اعلائها على مداميك صلبة، يبقى أبرزها:
ـ التأكيد على حق الاختلاف الديني وسواه، وعلى ديموقراطية الاختلاف، وبالتالي حق كل طرف بالتعبير عن رأيه بما لا يسيء إلى الآخرين.
ـ التأكيد على الطبيعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للصراع في لبنان عموماً، فالصراع ليس مذهبياً ولا طائفياً، وإنما هو صراع بين رؤى ومشاريع سياسية متباينة، وبين أغنياء وفقراء، وبين متخمين مترفين ومفسدين وعوزة وفقراء وصالحين الخ..
ـ إعادة بناء ذاكرة مشتركة تقوم على العيش الواحد المتفاعل، والذي يقطع مع كل الذاكرات السوداء والدموية السابقة، لمصلحة انتاج فكرة المواطن للوطن الواحد.
لذا، ما جرى، يبقى ظرفياً والخشية أن يكون مجرد مراجعة حسابات نتجت عن ضغوط خارجية، وعن استشعار بأن مسار الأمور لن يؤدي المطلوب، بل سيضاعف من خسارة صاحبه، وأن عليه العودة سريعاً إلى المربع  الأول قبل فوات الأوان، ولو  اقتضى منه تقديم خسارات تكتيكية أول غيثها الاعتراف بالأطراف الأخرى، والاقرار بأدوارها، والتسليم للخصوم وعلى الخصوم، لا سيما إذا كانت العين على الانتخابات النيابية.
نعم، ما جرى حتى الآن هو هدنة مطلوبة ومقبولة كمرحلة انتقالية لحل دائم، إلا أنها تبقى موضع شك وريبة، إذا كان المطلوب منها أن تكون محطة استراحة في حرب بين جولتين، أو محطة انتظار على طريق ما سيحدث في المنطقة، أو على طريق ما ستتكشف عنه وجهة الانتخابات النيابية المقبلة؟
الانتقاد/ العدد1298 ـ 12 أيلول/ سبتمبر 2008
2008-09-12