ارشيف من :أخبار عالمية
الصراع الاوروبي ـ الاميركي على جورجيا والمصير المحسوم لسآكاشفيلي
صوفيا ـ جورج حداد
حينما ظهر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في موسكو، في الوقت ذاته الذي انفجرت فيه ازمة جورجيا، واخذه على عاتقه التوسط بين الجانبين الروسي والجورجي، ربما اعتقد بعض المراقبين انها "صدفة خير من ميعاد"، او ـ في احسن الحالات ـ ان حضور ساركوزي هو تعبير عن رغبة فرنسية في تجنب الانزلاق الى نزاع اميركي ـ روسي لا احد يدري تبعاته.
ولكن مراجعة لمقدمات الازمة الجورجية التي انفجرت في آب/ أغسطس المنصرم، تبين ان زيارة الرئيس الفرنسي (و"وساطته") لم تكن "صدفة" او "بنت ساعتها"، بل كانت جزءا لا يتجزأ من الحدث، وان فرنسا لم تكن "محايدة" تماما، الا بمعنى عدم المشاركة في النزاع، الا انها كانت ـ ولا زالت ـ طرفا رئيسيا في مجريات الامور في جورجيا.
فالرئيس الحالي ميخائيل سآكاشفيلي جاء الى السلطة بنتيجة ما يسمى "ثورة الورد" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2003، التي اطاحت بالرئيس السابق ادوارد شيفارنادزه. وكانت هذه "الثورة" مسرحية أخرجها الاميركيون، وهو ما يعترف به سآكاشفيلي ذاته، الذي يؤكد انه لولا المساعدة الاميركية فإن الانقلاب على شيفارنادزه لم يكن لينجح.
وتبجح سآكاشفيلي بالمساعدة الاميركية كان الهدف منه امران:
الاول ـ التقليل من اهمية الدور الاوروبي في دعم الانقلاب.
والثاني وهو الاهم ـ تبرير ضرب النفوذ الاوروبي في جورجيا، ومحاولة تحويل جورجيا الى محمية اميركية خالصة، والتحضير للمعركة ضد روسيا، على الضد من الخط الاوروبي "الوسطي" و"المعتدل" في موضوع العلاقات مع روسيا.
وفيما يلي بعض الوقائع الدالة على تطور الاحداث على هذا الصعيد:
1ـ في ايلول 2008، وخلال زيارته لكييف عاصمة اوكرانيا، صرح نائب وزير الدفاع الجورجي ماموكا مودجيري ان جيش بلاده هو جاهز لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد ابخازيا واوسيتيا الجنوبية، ولم يخف مودجيري ان الثقة بنجاح مثل هذه العمليات تتأتى من التصريحات الاميركية (وبالاخص تصريح وزيرة الخارجية الاميركية غونداليزا رايس خلال زيارتها لتفليس في شهر تموز).
2ـ وفي الوقت ذاته، وفي شهر تموز ايضا (اي عشية الهجوم الجورجي على اوسيتيا الجنوبية) جرت مناورات عسكرية مشتركة جورجية ـ اميركية (شارك فيها من الجانب الاميركي اكثر من 900 نفر)، تم خلالها التدرب على تنفيذ عمليات عسكرية في الليل، وفي مناطق جبلية، وفي مناطق آهلة بالسكان. اي تماما ما يشبه الاوضاع الجغرافية لاوسيتيا الجنوبية وعاصمته تسينخوالي.
3ـ وفي هذا الصدد، وقبل ذلك بفترة، كان وزير الدفاع الجورجي السابق هيراقليي اوكوأشفيلي (الذي حصل فيما بعد على اللجوء السياسي في فرنسا) قد اكد وجود خطة لعملية عسكرية ضد اوسيتيا الجنوبية اسمها "قفزة النمر". واكد اوكوأشفيلي حينذاك ان تفليس قد ضمنت دعم الولايات المتحدة الاميركية لتحقيق هذه الخطة.
4ـ خلال تموز 2008 رفع البرلمان الجورجي ميزانية وزارة الدفاع الى 1 مليار دولار (مما يوازي 7% من الدخل القومي، و20% من مصاريف ميزانية الدولة)، ورفع عديد الجيش الى 37 الف نفر، مسلحين جيدا ومدربين جيدا بمساعدة المدربين الاميركيين والاسرائيليين. ومع ذلك فهذا لم يتح لهذا الجيش الحديث تحقيق ولو نجاح جزئي في الصدام مع الجيش الروسي "ذي الطراز القديم وغير المنضبط" (حسب تشخيص العديد من الخبراء الغربيين).
5ـ ان هيراقليي اوكوأشفيلي المشار اليه سابقا، شغل منصب وزير الدفاع (سنة 2004 ـ 2006)، ثم منصب وزير التنمية الاقتصادية (تشرين الثاني 2006)، وكان احد اقرب المساعدين لسآكاشفيلي في "الانقلاب" المسمى "ثورة الورد" في تشرين الثاني 2003. ولكنه في 25 ايلول 2007 اعلن انفصاله عن سآكاشفيلي وتشكيل حزب معارض اسمه "لاجل جيورجيا موحدة". وفي اليوم ذاته اعلن ان سآكاشفيلي صارحه في مطلع تموز 2005 بامكانية اغتيال رجل الاعمال المشهور بدري باتاركاتسيشفيلي. وبعد هذا التصريح فر بدري باتاركاتسيشفيلي من البلاد، ولكنه اغتيل لاحقا في لندن. كما اعلن اوكوأشفيلي ان رئيس الوزراء الجيورجي السابق زوراب جفانيا لم ينتحر بالغاز كما اعلن في حينه، بل تم اغتياله ايضا. كما اتهم هذا الوزير السابق سآكاشفيلي وحاشيته بالفساد.
ـ6ـ في 27 ايلول/ سبتمبر 2007 تم اعتقال اوكوأشفيلي، ووجهت اليه عدة تهم بالابتزاز والتقصير. وخلال توقيفه تراجع اوكوأشفيلي جزئيا عن اقواله السابقة واعترف بالمسؤولية، وعلى اثر ذلك تم اطلاق سراحه بكفالة مالية كبيرة بلغت ثمانية ملايين دولار. وفي 6 تشرين الثاني/ نوفمبر غادر البلاد الى المانيا بحجة الاستشفاء، حيث عاد فأكد التهم التي سبق ووجهها الى سآكاشفيلي. ودخل المانيا بفيزا "تشينغن" (تخوله الدخول الى مختلف الدول العضو في الاتحاد الاوروبي) حصل عليها من السفارة الفرنسية. وفي 14 تشرين الثاني اعلنت المحكمة الجيورجية ان اوكوأشفيلي مطلوب للعدالة.
7ـ في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007 تم توقيف اوكوأشفيلي في برلين. ولكن السلطات الالمانية رفضت تسليمه لجورجيا، وسلمته في 9 كانون الثاني/ يناير 2008 الى فرنسا باعتباره دخل المانيا بفيزا فرنسية. وتركت لفرنسا امر تسليمه الى جورجيا. وبقي اوكوأشفيلي قيد التوقيف في فرنسا، حيث تم اطلاق سراحه في 30 كانون الثاني/ يناير 2008.
ـ8ـ في 28 اذار/ مارس 2008 اصدرت المحكمة في جورجيا حكما غيابيا على اوكوأشفيلي بالسجن مدة 11 سنة. ولكن فرنسا رفضت تسليمه، بل ومنحته في 23 نيسان/ أبريل 2008 حق اللجوء السياسي.
وبعد اقل من اربعة اشهر على حصول اوكوأشفيلي على اللجوء السياسي في فرنسا، انفجرت الازمة الجورجية، ودمر الجيش الجورجي (جيش "قفزة النمر")، وتحول سآكاشفيلي الى "جثة سياسية" كما وصفه وزير الخارجية الروسية سيرغيي لافروف، وبدلا من ان يفرض سآكاشفيلي سيطرته التامة، ومن ورائه الاميركيون، على اوسيتيا الجنوبية وابخازيا، انفصلت الجمهوريتان نهائيا عن جيورجيا واعترفت بهما روسيا رسميا بعد تردد دام حوالى ثلاثة عقود، ووقفت اميركا (وتركيا!!) عاجزتين عن امداد حليفهما سآكاشفيلي بأي عون ميداني حقيقي، خشية من اية ردة فعل روسية لا يحسبان لها حسابا. وحتى اسرائيل، التي كانت قد زودت جورجيا بالخبراء والاسلحة وخصوصا طائرات التجسس بدون طيار، ارتعبت، وأعلنت قطع "صلاتها العسكرية" مع جورجيا.
ماذا يمكن للمراقب الموضوعي ان يستنتج من هذه القرائن؟
يمكن ببساطة استخلاص الاستنتاجات التالية:
1ـ ان الطبقة السياسية الحاكمة ذاتها في جورجيا لم تكن، وطبعا ليست الان، موحدة الموقف الى جانب سآكاشفيلي، ومن ثم الى جانب الخطط الاميركية، بدليل وجود تناقضات بلغت حد الاغتيالات السياسية على "مستوى عال"، وان معارضة سآكاشفيلي لا تقتصر على الجناح السياسي المؤيد للاحتفاظ بالعلاقات التاريخية مع روسيا، بل وتشمل جناحا واسعا وقويا يعارض الاميركيين ويؤيد السير مع "الاتحاد الاوروبي"، واوكوأشفيلي هو ممثل نموذجي لهذا الجناح.
2ـ اذا استثنينا بريطانيا، التي لا تزال تتصرف كتابع لاميركا، فإن "اوروبا القديمة" (خصوصا المانيا وفرنسا، اللتان استضافتا اوكوأشفيلي ومنحته ثانيتهما حق اللجوء السياسي) لم تكن راضية عن خطة تفجير الازمة مع روسيا ومهاجمة اوسيتيا الجنوبية، لما ـ على الاقل ـ يحمل ذلك في طياته من خطر حرمان اوروبا من امدادات الطاقة (النفط والغاز)، التي اكدت نتائج المعركة العسكرية الاخيرة انها لا يمكن ان تأتي من روسيا، ولا ان تأتي من بحر قزوين عبر جورجيا او غيرها، رغما عن روسيا.
3ـ ان البلدان "الاوروبية الجديدة" (اي التي انضمت حديثا الى الناتو والاتحاد الاوروبي) وهي بلدان الكتلة السوفياتية السابقة، كأوكرانيا وتشيكيا وبولونيا، التي تصرفت وكأن بطاقة الدخول الى "النادي الاوروبي" ينبغي ان تكون حتما بطاقة اميركية، ووضعت اراضيها تحت تصرف المشاريع العسكرية الاميركية المعادية لروسيا، لم تنفع سآكاشفيلي وزمرته بشيء، بل كل ما فعلته انها ظهرت كمن يسعى الى حتفه بظلفه، وان اي تحرش بروسيا من اراضي تلك الدول سيلقى ردا كاسحا ربما يصل الى حد استخدام الصواريخ الروسية المرعبة والاسلحة النووية ذاتها، مما يهدد بمحوها تماما من الوجود، ولن تستطيع لا اميركا ولا اي قوة اخرى انقاذها من مصير اسود لا تحسد عليه.
4ـ اذا كان سآكاشفيلي قد اصبح "جثة سياسية" كما وصفه لافروف، فإن الاميركيين ليس لديهم "طاقم احصنة" بديل ليجر العربة الاميركية من جديد في جورجيا، وان اغتيال رجال المعارضة السابقين الذين كانت تراهن عليهم "اوروبا القديمة" مثل رجل الاعمال بدري باتاركاتسيشفيلي ورئيس الوزراء الجيورجي السابق زوراب جفانيا وغيرهما، يعني ان "اوروبا القديمة" ـ وبالرغم من الوساطة الفرنسية مع الروس ـ لن تأخذ على عاتقها مهمة اعادة تعويم سآكاشفيلي سياسيا او نفخ الحياة من جديد في هذه "الجثة"، بل على العكس تماما ان مصلحة "اوروبا القديمة" الان هو ترك سآكاشفيلي ينهار امام ضغط تداعيات الحرب الاخيرة، التي كانت بمثابة "نزهة صغيرة" لبعض قطعات الجيش الروسي، الا انها كانت كارثة قومية حقيقية للشعب الجيورجي المظلوم، على جميع الاصعدة، وخصوصا الانسانية والاقتصادية والمعيشية، والشعب الجيورجي لن يغفر لعصابة سآكاشفيلي العميلة لاميركا تسببها في تدمير البلاد لاجل مصالح الامبرياليين الاميركيين وشركائهم الاستراتيجيين الصهاينة و"اسرائيل".
5ـ ان رفض فرنسا تسليم هيراقليي اوكوأشفيلي ومنحه حق اللجوء السياسي وتسليط الضوء عليه، يدل ان تحضير "البديل الاوروبي" لسآكاشفيلي قد بدأ، سواء كان هذا البديل اوكوأشفيلي او غيره. وهو ما سيحظى بتأييد روسيا، دون ان تستطيع اميركا ان تفعل شيئا.
ان اهم استنتاج سياسي ستراتيجي قدمته الازمة الجورجية هو: ان مراهنة العملاء امثال سآكاشفيلي على اميركا هي مراهنة خاسرة، وبالمقابل فإن مراهنة اميركا على عملاء امثال سآكاشفيلي هي ايضا مراهنة خاسرة.