ارشيف من :آراء وتحليلات
بدون تعليق: رمضان كريم.. والصمت أغلى من الذهب

محمد الحسيني
"رمضان كريم" .. عبارة غالباً ما تدور على ألسنة الناس، يهنئ أحدهم بها أخاه أو رفيقه، أو يخفف بها توتراً أصاب أحدهم، فيعاجله بهذه العبارة الطيبة ليقطع عليه السبيل أمام زيادة جرعة الغضب و"التعصيب"، التي تصيب الصائم، وهو الذي يربّي ذاته بحرمان نفسه من ملذات العيش اليومي من مأكل ومشرب، مما يؤدي إلى اختلاف عاداته البيولوجية والسيكولوجية في شهر رمضان المبارك عن غيره من الشهور، هذا فضلاً عن الآثار التربوية والمعنوية التي تترتب على أداء فريضة الصوم من تمرّس على الصبر والأناة والقدرة على التحمّل..
ليست هذه الفقرة وقصدها مخصصة لتناول سير الأنبياء والصالحين والمواضيع الأخلاقية ومناحي المفاهيم الاجتماعية، وليست هي منبراً للوعظ الأبوي والأخوي أو التشجيع على حفلات المصالحة وتبادل القبل الباردة.. هذه الفقرة كعنوانها تعرض الموضوع وتشرّحه وتكشح عن بعض زواياه القليل من الغبار لتتضح الصورة أكثر، ولو أننا بدأنا الحديث بعبارة "رمضان كريم" المباركة وأوحى الكلام بأنه عرض صحي ونصائح أخلاقية، إلا أن خلفية الحديث توضح المقصد..
بالأمس، وبعد وقت طويل ارتأيت أن أريح زوجتي من عناء التبضّع في السوق.. ذهبت علّني أخفف صعوبة الانتظار ريثما يحين موعد الإفطار، وهناك التقيت صديقاً لي، حيّيته فرد التحية بهزّ رأسه فلم أعلّق، سرنا معاً وأنا أحدّثه وهو لا يجيب وكأن الصيام قد خطف نطقه، أو أنه صمت لقضاء نذر واجب عليه.. بدأت أتسوّق لتتضح لي شيئاً فشيئاً ملامح عبقرية صديقي الصامت..
كانت زوجتي لتعارض أو تمتعض لو أنا ذهبت للتبضع، ولكنها بدت أمس وكأنها تشجعّني، لا بل بدت وكأنها كانت تنتظر مني هذه المبادرة.. استرجعت هذه الفكرة حين كنت أجادل البائع في السوق، وأوجّه إليه الكلمات الحادة بسبب الجروح التي أصاب بها جيوبي من جراء ارتفاع أسعار بضاعته من الفواكه والخضار، وباقي مستلزمات الافطار.. والتفتّ لأرى صديقي الصامت يبتسم، حتى أني سمعت قهقهة تفلتت من جوفه لفرط ما أضحكه المشهد.. هل اتضحت الصورة؟
حلفت ألا أعود مرة ثانية إلى السوق إلا حين تكون جيوبي فارغة.. وحلفت ألا أنهر زوجتي ولا أتهمها مرة ثانية بأنها تريد إفقاري و"تطفيري" حين تزيد موازنتها اليومية من متطلبات المنزل.. والآن لو ترونني الآن لوجدتموني أقف معتصماً بالصمت قرب صديقي العبقري، لأنه في ظل أوضاع اقتصادية بخيلة، وظروف معيشية قاسية، يصبح الصمت أبلغ من أي فصاحة، وأغلى من الذهب بل أثمن من حياة بأكملها..ورمضان كريم.