ارشيف من :آراء وتحليلات
المصالحات وطاولة الحوار الوطني: النتائج مرهونة بما ستؤول اليه مرحلة الانتظار الثقيلة

كتب مصطفى الحاج علي
هل نحن في مرحلة تحولات داخلية تأخذ عناوين بارزة كالمصالحة والحوار، مرحلة تشهد مخاضات صعبة حيث تتزامن مع تطورات أمنية حساسة أبرزها اغتيال القائد صالح فرحان العريضي، أم ما نشهده هو مجرد مراجعة حسابات تستهدف بالتالي احتواء الخسائر، وإعادة تنظيم الصفوف، وتجميع الأوراق، بانتظار محطات مواجهة مقبلة قد يكون بعضها سياسياً، والآخر أمنياً أو عسكرياً؟
من الواضح، أن نوع الإجابة عن هذه الأسئلة من شأنه أن يحدد منذ الآن، مضمون النتائج التي يمكن أن تترتب على حركة المصالحات التي تجري، وطاولة الحوار، المزمع عقدها في السادس عشر من الشهر الجاري في القصر الجمهوري، برعاية رئيس الجمهورية.
إن تقديم قراءة دقيقة لما تقدم، يستلزم ملاحظة التالي:
سنوات الفشل الأميركي
في الذكرى السابعة لتفجيرات الحادي عشر من أيلول 2001، والتي كانت إيذاناً بإطلاق ما سمته واشنطن الحرب على الإرهاب، والتي كانت ترجمتها المباشرة شن حربين: الأولى على أفغانستان، والثانية على العراق، والثالثة على لبنان، والتي أريد من خلالها إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يحفظ أمن الكيان الإسرائيلي ويطبع وجوده في المنطقة، ويمكّن واشنطن من أن تتحكم بموارد المنطقة لا سيما النفط، في الطريق لفرض هيمنتها الأحادية على العالم، إلا أن حصيلة هذه الحروب جاءت محبطة ومخيبة إلى أقصى الحدود:
أ ـ حركة طالبان التي أسقطها الغزو الأميركي استعادت زمام المبادرة بسرعة لاسترجاع السلطة، أما تنظيم القاعدة فقد نجح في ترسيخ قاعدة جديدة وقوية له في منطقة وزيرستان داخل الباكستان وعلى الحدود مع أفغانستان، فأفغانستان يكاد يكون أكثر من نصفها في قبضة طالبان والقاعدة من جهة، والانتشار الجديد للأخيرة، وقيام الطائرات الاميركية بقصف قواعد للقاعدة في باكستان، فتح أزمة عميقة، في التحالف الصلب الأميركي ـ الباكستاني اليوم.
ب ـ إذا كان يمكن لواشنطن الادعاء بأنها نجحت إلى حد ما في تقليص العمليات الأمنية، وعمليات المقاومة، داخل العراق، إلا أنها بالتأكيد لم تنجح ـ حتى الآن ـ في إرساء معادلة سياسية وأمنية لمصلحتها، وأكثر من ذلك، فإن واشنطن تعلم علم اليقين، ان لدول اقليمية مجاورة حجما حضورا وتأثيرا يوازي، إن لم يتفوق في بعض المجالات، على حضورها وتأثيره، وإذا كان من انجازات، فلا تحتسب لها بالكامل.
باختصار، إن الحصيلة العامة لحربي اميركا في العراق وافغانستان، لم تحمل نصراً لها، بقدر ما حملت نصراً لخصومها وفي طليعتهم ايران، حيث بدلت هاتان الحربان التوازن الاستراتيجي لمصلحة دول الجوار لا سيما إيران وتركيا وسوريا، وعلى حساب مصالح حلفائها في المنطقة خصوصاً العرب منهم.
ج ـ جاءت حرب تموز وفشل التحالف الأميركي ـ الاسرائيلي وبعض العربي في إحراز نصرٍ فيها يعيد التوازن لمجمل المشروع الاميركي، وليصيب الكيان الاسرائيلي بأعطاب استراتيجية، قلصت إلى حد كبير من إمكانيات توظيفه لنتائج الحرب على العراق لمصلحته، وليجد نفسه في نفس موقع الحلفاء العرب لواشنطن.
د ـ الخلاصة الأخيرة لهزائم واشنطن هي انهيار "مبدأ بوش" حول الحرب الوقائية، وانهيار وحدانية القوة العظمى الاميركية، والاتجاه اليوم ليس نحو "عالم بلا قطب" حسب تعبير ريتشارد هاس، بل نحو "عالم متعدد الأقطاب" عبر صعود الصين والهند وروسيا، وعبر عودة الاعتبار إلى الدول القومية القوية، وحرصها على اثبات وجودها ولعب أدوارها.
هذه الخلاصة كان لها انعكاساتها العميقة على حلفاء واشنطن في دول وأطراف سياسية راهنت كثيراً وبقوة على قدرة واشنطن على صوغ عالمها الخاص، وفي طليعة هذه الدول المتضررة عربياً السعودية، ومصر، والأردن، وأما في طليعة هذه الأطراف فائتلاف 14 شباط في لبنان، وخصوصاً تيار المستقبل، والحزب التقدمي الاشتراكي.
في هذا السياق العام، يتم التحضير للانتخابات الاميركية، التي تفرض اليوم محطة انتظارية اجبارية على الكثيرين لجلاء نتائجها، والطريقة التي ستتعاطى معها الإدارة الجديدة مع الكثير من الملفات المعقدة التي ستتركها الإدارة الحالية، وهي ملفات داخلية وخارجية بامتياز: فهل سنكون إزاء إدارة هي امتداد للإدارة الحالية في سياستها، أم إزاء ادارة تعيد النظر في مجمل ما جرى، وتحاول تلمس حلول واقعية تستند إلى حقائق الأمور على الأرض، ما قد يفتح الطريق، أمام عمليات تفاوض معقدة وصعبة، لكن لا بد منها؟
هذه الاحتمالات لا تلغي الخوف من احتمالات أن يذهب البعض إلى محاولات يراها أخيرة لإعادة تعديل التوازنات في المنطقة عبر الحرب، والحرب المحتملة هنا إما أن تكون على الجبهة الإيرانية، وإما أن تكون على الجبهة اللبنانية، من دون استبعاد سوريا أيضاً في بنك الأهداف، وما بين هذين الحدين هناك حد ثالث، وهو أن تكون الفترة الانتظارية مسرحاً لاشتباك آخر بين القوى المتصارعة هو الاشتباكات الأمنية.
العلاقات العربية ـ العربية
لا يختلف اثنان اليوم، أننا نشهد مرحلة انهيار كامل للنظام الاقليمي العربي، فلا مؤسسات هذا النظام باتت فاعلة، وهي أقرب إلى الهياكل الجوفاء منها إلى أي أمرٍ آخر، ولا العلاقات العربية ـ العربية في أحسن أحوالها، بل ربما في أسوأ أحوالها، وما يعنينا هنا تحديداً العلاقات السعودية ـ السورية، والمصرية ـ السورية، التي تمر في مخاضٍ معقد وصعب، كما أن الواقع العربي العام اليوم هو في حال انعدام وزن مطلق، إذا ما استثنينا سوريا وقطر التي استطاعت كل منهما أن تحفظ لنفسها موقعاً وقدرة على لعب أدوار مهمة ـ وهذا الواقع هو ما يدفع الواقع العربي ـ الرسمي إلى الهوامش، لمصلحة بروز أدوار لدول اقليمية، كلها ـ باستثناء سوريا ـ خارج الإطار العربي الاقليمي كتركيا وايران.
المشهد اللبناني اليوم
لبنان اليوم هو جزء لا يتجزأ من حال المنطقة عموماً، فهو كان حلقة رئيسية في المخطط الاميركي، ما يعني أن فشل هذا المخطط سينعكس فشلاً على أدواته في لبنان، وهذا ما حدث، وإذا أخذنا بعين الاعتبار استمرار تأزم العلاقات السورية ـ السعودية والسعودية المصرية ورغبة واشنطن بالبقاء على مسافة من الانفتاح الأوروبي البديل على سوريا، في الوقت الذي تتوالى فيه التهديدات الإسرائيلية والاميركية للبنان وإيران ولسوريا بطريقة وأخرى، هذا يقودنا إلى الخلاصات الرئيسية التالية:
أولاً: ان المصالحات المرجوة، كما طاولة الحوار، تجريان في مرحلة انتظارية ـ انتقالية مفتوحة على خيارات متنوعة، وعلى احتمالات متعددة، كما أنها موقوتة على روزنامة سياسية دقيقة في المنطقة، وفي لبنان، يبقى أبرزها استحقاق الانتخابات اللبنانية.
ثانياً: ان المصالحات المرجوة، كما طاولة الحوار، تجريان في ظل توازنات للقوة هي لغير مصلحة الفريق الاميركي في لبنان والمنطقة.
ثالثاً: ان المصالحات المرجوة، كما طاولة الحوار، تجريان في ظل مناخات متناقضة تتراوح بين استمرار التهديدات بالحرب من جهة، والانفتاح على التفاوض من جهة أخرى.
كل ما تقدم، يشير إلى أننا أمام مرحلة الهدف الأساسي منها إرساء حال من التهدئة أو الهدنة الداخلية، وإرساء حال من التعايش الصعب، ما يوفر فرصا أفضل للأطراف لتنظيم أوراقها، ولملمة صفوفها، ربطاً بما ستؤول اليه الأمور في المنطقة سواء من الآن وحتى نهاية ولاية بوش كمحطة انتظارية اولى، ام ما بعد الانتخابات الاميركية، والطريقة التي ستتعامل بها الإدارة الاميركية الجديدة مع المنطقة عموماً، ولبنان تحديداً، ولذا، لا يتوقع الكثير من النتائج، كما أن سقوف المصالحات وحدودها ستبقى نسبية ومضبوطة.
ولعل أخطر ما في المراحل الانتظارية هو ما يمكن أن تشهده من ألعاب أمنية، هدفها تسجيل نقطة هنا ونقطة هناك، وبقاء الأمور مشدودة إلى كل الاحتمالات، والحفاظ على متنفس للاحتقان الشديد السائد.
الهدوء والتهدئة مطلوبان، لكن ـ كما يبدو ـ لن يعني ذلك استقراراً أمنياً كاملاً، وفي هذا الإطار العام، يمكن وضع اغتيال القائد العريضي.
الانتقاد/ العدد1299 ـ 16 أيلول/ سبتمبر 2008