ارشيف من :أخبار لبنانية
انطلاق الحوار الوطني في قصر بعبدا

افتتح رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في قصر بعبدا الحوار الوطني وألقى كلمة في ما يلي نصها:
"نلتقي في هذا اليوم المشهود لنطلق مجددا حوارا طالما أردنا له أن ينطلق، وطالما أدركنا مدى حاجة الوطن لنجاحه، ومدى تلهف المواطنيين انتظارا لنتائج يخلص لها الحوار، فتعيد لهم ما افتقدوه منذ زمن بعيد من استقرار سياسي، ورخاء اقتصادي، وآمان اجتماعي.
لقاؤنا هذا محطة مفصلية، نفتح من خلالها نافذة جديدة على الحوار الهادئ، مستندين إلى تجربة ديمقراطية عريقة، يشكل الحوار واحدة من ابرز ممارساتها. فالحوار والديمقراطية صنوان، وكلاهما مبني على التباحث والنقاش، وعلى الاعتراف بالرأي الآخر واحترامه. وأجدني مؤمنا أن الوجه المكمل للحوار يتمثل بالمصالحة بين أطرافه، فالمصارحة والمصالحة تؤديان إلى التوافق على ما يضمن بناء الدولة القوية، والتزام الممارسات الديمقراطية. وسيفضي ذلك كله إلى تأكيد وتعزيز قدرة الدولة على إدارة شؤونها بنفسها.
تفرض علينا مسؤوليتنا الوطنية ألا نقبل بديلا عن إنجاز هذه التوافقات، فهي سبيلنا المتاح إلى الحياة الكريمة، والبدائل الأخرى المتبقية - بخلاف التوافق - تدعو إلى القلق الشديد، والخوف على المستقبل، وهي تستحق أن نتوقف عندها مليا، وأن نبادر حيالها إلى تقديم التنازلات، وتقبل التضحيات ولو كانت موجعة، فهي لا تقدم من أطراف الحوار بعضها للبعض الآخر، بل هي قربان يقدم في سبيل عزة هذا الوطن وكرامته.
يتضح دورنا وتتأكد مسؤوليتنا عندما نتطلع من حولنا، فإذ بالأجواء السياسية المشحونة تعدت محيطنا الإقليمي، وهي تنذر بتوترات دولية يتوقع لها فيما لو استمرت أن تؤدي إلى استقطابات متوترة، باردة وساخنة. ونحن بلد صغير ومتنوع لا بد له أن يكون موحدا، متضامنا على السراء والضراء، لعله ينجح ما أمكن في تجنب مفاعيل الرياح العاتية إذا ما هبت. ولنا ولكم من تجارب الماضي القاسية خير دليل.
أيها الكرام
انعقد مؤتمر الحوار اللبناني بدعوة من دولة رئيس مجلس النواب في العام 2006، واستطاع أن يحقق توافقا في مواضيع عديدة، وكان ذلك إنجازا مقدرا ومشكورا يقتضي السير قدما في تنفيذها. لا بد لنا أن نقر أن لطاولتكم الفضل فيما نحن بصدده اليوم. كما لا بد أن نقدر عاليا رعاية جامعة الدول العربية بشخص أمينها العام السيد عمر موسى، وجهود لجنة وزراء الخارجية العرب التي توجتها مقررات مؤتمر الدوحة، برعاية كريمة من أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. وها نحن اليوم نطلق آلية استئناف مؤتمر الحوار اللبناني.
ترى الأطراف المختلفة وجوب مناقشة موضوع الإستراتيجية الدفاعية للبنان؛ والإستراتيجية عنوان شامل يبحث عن خيارات كبرى ومخططات طويلة الأجل، ويتناول موارد الدولة على اختلافها بغية حشدها لتأمين تحقيق الأهداف المرسومة. كما أن كثيرين قد طرحوا بحث مواضيع أخرى بالتزامن مع مناقشة هذه الإستراتيجية. وأرى أن من أولى مهامنا أن نضع تصورا عاما لهذا الحوار شكلا ومضمونا، فقبول الحوار بحد ذاته يعني أن لا شيء مقفلا، بل أن مختلف المواضيع قابلة للنقاش والتوافق، والممنوع الوحيد هو الفشل أو الوصول إلى الطريق المسدود.
أيها الكرام
مخاطر كبرى لا تزال تتهدد هذا الوطن الحبيب، ونحن جميعا متفقون على أن إسرائيل لا تزال مصدر الخطر الأبرز علينا، وهي لا تتورع عن إعلان نواياها العدائية تجاهنا، والتهديد بضرب مؤسساتنا ومنشآتنا الوطنية، مما يؤكد إصرارها على العدوان واستهتارها بالشرعية الدولية وبقرارات الأمم المتحدة وبقواتها العاملة في الجنوب. ناهيك عن استمرار احتلالها لأجزاء عزيزة من أرضنا في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر. واستمرار حرمانها اللاجئين الفلسطينيين من حقوقهم المشروعة.
إزاء هذا الواقع، واستنادا إلى حق لبنان "شعبا وجيشا ومقاومة" في الدفاع عن أرضه، لا بد من وضع إستراتيجية تتكامل فيها كل عناصر قوة الدولة، وتندرج تحت مفهوم الدولة في الدفاع عن أراضيها في إطار السياسة العامة للبلاد. إنني على ثقة تامة أن باستطاعتنا وضع إستراتيجية تحمي لبنان تستند إلى قواتنا المسلحة، وتستفيد من طاقات المقاومة وقدراتها. فلنبحث عن عناصر القوة لدينا، ولندمج قدراتنا بما فيها الدبلوماسية، ولنثمر رسالة لبنان وتنوعه، فنحقق من خلال التحاور وحدتنا وتوافقنا، ونقارب مثل هكذا موضوع مصيري بوجهات نظر موحدة.
تهيأت في الفترة الأخيرة ظروف ومعطيات خارجية مساعدة يمكن البناء عليها خلال جلسات الحوار، وبالأخص من خلال القمة اللبنانية - السورية. إذ أن البيان المشترك اللبناني - السوري الذي أعقبها يشكل اساسا يجب تثميره ومتابعته، فهو يؤسس لارضية صالحة تحصن إمكاناتنا، وتعزز عناصر القوة المتوافرة لدى البلدين. وستتم مواكبة هذا السعي لتثبيت حقوق لبنان والدفاع عن مصالحه العليا، من خلال إطلالاتنا المرتقبة على المحافل الدولية، ومن خلال الزيارات المتبادلة التي تمت، وتلك التي يجري الإعداد لها.
ينتظرنا في المستقبل القريب استحقاق الانتخابات النيابية المقبلة، والانتخابات مكون مركزي من مكونات حريتنا وديمقراطيتنا، ومحطة رئيسية في مسيرة بناء الدولة السيدة. وإن إنجازها على الوجه الأمثل دليل معبر على مدى قدرتنا على إدارة شؤوننا بأنفسنا. وأرى أن الأجواء التي سيخلقها الحوار، ستدفع بالمعنيين لإقرار قانون الانتخابات في أسرع وقت ممكن، والسير قدما بتحضير كافة الإجراءات الضرورية لإتمامها في مواعيدها.
تقضي الواقعية منا أن نعترف بما يعترض مسيرتنا من صعوبات ومخاطر، فكلما تقدمنا على طريق التهدئة والاستقرار يسعى المتضررون لافتعال التوتر وإثارة الفوضى، وكلما نجحنا في تجاوز الخلافات وعقد المصالحات عملت قوى الشر على معاقبة الشجعان الذي انبروا لإنجازها وعقدها. وفي هذا السياق، ما أن أطلقنا الحوار حتى وقعت جريمة بيصور وعوقب فيها أحد هؤلاء الشجعان، لكن رياح المصالحة كانت قد هبت، فأثمرت بالأمس لقاء خلدة الميمون، ولم تقوى عليها أيدي الغدر والجريمة، فلنغتنم جميعا الريح المؤاتية، إذ أن الجريمة من فعل أعداء لبنان، وليس أمامنا سوى أن نتصدى لأعداء لبنان بمثل هذه الإرادة في الحوار والشجاعة في المصالحة.
تبقى الأهداف الوطنية التي نتوخاها من هذا الحوار المسؤول عرضة لمخاطر جمة، ويجب مواكبتها بمسؤولية إعلامية عالية تلتزم بها كافة أطراف الحوار، وبمناخ إعلامي معافى يفصل بوضوح بين قدسية حرية التعبير وفوضى التراشق عبر وسائل الإعلام. فالنتائج المفرحة قد لا تبدأ بالظهور باكرا، وعلى العكس من ذلك فقد توحي أجواء التصارح وعرض الهواجس ونقاشها بأن الحوار يتجه إلى الطريق المسدود، كما قد يوحي بذلك أيضا الفسحة الزمنية التي نحتاجها لإعلان نتائج إيجابية. وفي هذا السياق نعتبر أن جميع وسائل الإعلام اللبنانية معنية باحتضان الحوار الوطني بعيدا عن الشحن الطائفي والفئوي، ولا نراها إلا ملتزمة بالقوانين والأعراف المهنية، وساعية إلى تعزيز الوفاق والوحدة الوطنية.
اخترت أن نتحاور في قاعة الاستقلال، قاعة 22 تشرين، فرمزية هذه القاعة تحثنا على تدعيم مسيرة الاستقلال، وتثبيت ركائز الوفاق، المبني على الدستور وعلى وثيقة الوفاق الوطني المنبثقة عن اتفاق الطائف.
لبنان أيها السادة، وطن الرسالة وملتقى الحضارات، وقد ميزته تعدديته الفذة، وأسبغت عليه خصوصيته، فغدا نموذجا فريدا، يلعب دورا فاعلا في محيطه العربي وفي المجتمع الدولي، كمثال حي لتعايش الثقافات. هكذا كان لبنان وهكذا يجب أن يبقى دائما، فوطننا يحيا على ثقافة الحوار وعلينا أن نضرب المثل ونعطي القدوة".