ارشيف من :آراء وتحليلات

لماذا يتعمد الحريري الغموض والإبهام حيال مستقبل الصيغة الحكومية؟

لماذا يتعمد الحريري الغموض والإبهام حيال مستقبل الصيغة الحكومية؟

كتب ابراهيم صالح

يمكن لأي مراقب لمسار الامور بعد التكليف الثاني للنائب سعد الحريري تأليف حكومته الاولى ان يلاحظ ان الرجل ـ ورموز فريقه السياسي ـ يتعمد امرين اساسيين:

الاول: الغموض والالتباس في شأن شكل الصيغة الحكومية المقبلة التي يعتزم تقديمها لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في خاتمة المطاف.

الثاني: انه يسعى جاهداً ان يقدم نفسه في "حلة جديدة" إن لجهة طريقة الاستشارات مع الكتل النيابية التي بدأها اخيراً، وإن لجهة عدم الالتزام المسبق بأي تعهد او مضمون سياسي لتركيبة حكومته المقبلة.

وعلى هذا الأساس، يشرع الحريري بجولة استشاراته وسط جو ومناخ غير مألوف ومعتاد، لا سيما من حيث الشكل، اذ للمرة الاولى يعلن ان مدة استشاراته ستكون خمسة ايام، ويُمهد "جماعته" الخاصون الأمر كله بفيض من التصريحات توحي وكأن كل صنع الحكومة مطروح على بساط البحث، وكل الالتزامات والتعهدات التي اعطاها ووردت على لسانه في التكليف الاول الذي استمر نحو 72 يوماً باتت موضوعة على الرف، وهي لا تلزمه بشيء، وهذا يعني بشكل او بآخر ان الحريري يريد ان يوحي انه يرفض ان يبدأ من حيث انتهى، وانما يبدأ بداية مختلفة المواصفات والمقاييس من كل ما له صلة بالماضي القريب.

وعليه ايضاً فإن الحريري والناطقين بلسانه يرفضون حتى الان الاشارة من قريب او بعيد للاطار السياسي العام الذي تم الاتفاق عليه في الفترة السابقة والمتجسد في صيغة الـ"15-10-5".

ويتعمدون بشكل واضح عدم الاتيان على ذكر حكومة الوحدة الوطنية التي كانت في السابق لازمة كل تصريحاتهم ومادتها الاساسية.

بالطبع مثل هذه "الاجواء توحي وكأن الحريري "الثاني" متحرر تماماً من موجبات المرحلة الماضية وما تلاها من تفاهمات وشروط، وانه يريد بالتالي إرساء منهجية تفاوض جديدة مع الافرقاء المدعوين للمشاركة في الحكومة.

وبالطبع ايضاً فإن الحريري وفريقه يعتقدون ان من شأن مثل هذه الاجواء ان تعيد بعض ما فقده من رصيده في أعقاب إخفاقه في المرة السابقة في تأليف حكومته الاولى، فاضطر الى الاعتذار، قبل ان تعيد الاكثرية تسميته ثانية لهذه المهمة.

ومما لا ريب فيه ان السؤال المطروح حيال ذلك هو اذا كان الحريري يسعى بالشكل الى تكريس منهجية مفاوضات واستشارات جديدة، خصوصاً مع من هم من خارج حلفه السياسي، فهل بمقدوره البناء عليها للحصول على مضامين جديدة لعملية تأليف الحكومة؟ واستطراداً هل في مقدوره ان يمضي قدماً في المغامرة الى حد التجرؤ على طرح صيغ حكومية مختلفة كمثل حكومة اللون السياسي الواحد وحكومة اكثرية، او ان يفرض على قوى المعارضة القبول بما كانت تعارضه وتناهضه في السابق؟

يبدو جلياً ان الحريري نجح حتى الان في إخراج نفسه مما كان يعتقد انه "جدران أسر الاخرين له" ونجح استطراداً في حالة المراوحة التي صار في الاسابيع القليلة التي سبقت اعتذاره، رهينها، فلا هو كان بمقدوره التقدم إلى الأمام وليس في مقدوره التراجع.

ولكن ذلك على بداهته لا يعني إطلاقاً، وفق كل القراءات، أن الحريري قادر على المضي قدماً، في مغامرة التفلت من كل القواعد العامة المعروفة الحدود والأبعاد لتأليف حكومة وحدة وطنية، فالأمر له علاقة وثيقة بطبيعة التوازنات السياسية والشعبية والنيابية.

في الأيام القليلة التي سبقت اعتذاره كان للحريري محاولة أخيرة حاول عبرها الالتفاف على مطالب المعارضة المعلومة. وعليه، وحسب معلومات، فإن الحريري تفاهم ضمناً مع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان على ان يقدم الصيغة الحكومية التي قدمها قبيل 3 ايام من إعلان اعتذاره، وتولى الرئيس سليمان العمل على "ترويج" هذه الصيغة من خلال الاتصال بالقيادة السورية لإقناعها بأهمية الصيغة المقدمة للمعارضة، ومن خلال محاولة إقناعه وفد المعارضة بقبول النظر بهذه الصيغة وإعلان الاستعداد للبحث في بعض التعديلات الشكلية فيها وإقناع الرئيس المكلف بتبنيها.

ولكن وبعد أن أبلغت القيادة السورية الرئيس سليمان أنها ما زالت عند موقفها المعلن وهو رفض التدخل في هذه المسألة، وبعدما رفضت المعارضة حتى تسلم الصيغة والنظر فيها لأنها ترفض أصل الأمر، وهو محاولة فرض تشكيلة من دون أن تحظى بموافقتها، فإن الرئيس سليمان طلب من وفد المعارضة إبلاغ ما يريدون إبلاغه إلى الرئيس المكلف، فكان الاجتماع الأخير بين عضوي الوفد الحاج حسين الخليل والنائب علي حسن خليل.

ولم يعد خافياً ان الحريري ضمّن هذه الصيغة الحكومية اكثر من "متفجرة" قابلة للانفجار فيما بين قوى المعارضة نفسها، وبينها وبين رئيس الجمهورية.

وفي كل الاحوال ومع بداية المرحلة الثانية من التكليف بدا واضحاً ان المعارضة حددت الخطوط العريضة لرؤيتها لشكل الحكومة المقبلة والتي لا يمكن لها التنازل عنها وهي:

1- ان المعارضة تتمسك بالصيغة المتفق عليها، وهي صيغة الـ"15- 10-5" ولن ترضى دونها بديلاً.

2- ان المعارضة ما برحت عند موقفها المعروف، وهي انها اما ان تدخل الحكومة المقبلة معاً او لا تدخل اطلاقاً.

3- ان المعارضة تعتبر مطالب زعيم "التيار الوطني الحر" النائب ميشال عون مطالب محقة، وعلى الرئيس المكلف التفاوض بشأنها مع العماد عون او من ينتدبه لهذه المهمة.

4- ان المعارضة ما زالت على موقفها المعلن، وهو رغبتها الدائمة بالحوار مع الرئيس المكلف وانفتاحها على اية افكار ورؤى للتفاوض، وهي التي سبق لها وابدت رغبتها بعدم قطع خطوط التواصل والحوار، وهي تجاهر برفضها للصيغة الحكومية التي قدمها الحريري لرئيس الجمهورية.

5- ان المعارضة مهتمة جداً بتأليف حكومة وطنية بشكل عاجل وسريع، لأنها تعي المخاطر التي يمكن ان تنشأ اذا ما طال تأليف هذه الحكومة، وبقيت البلاد تحت حكومة تصريف الاعمال.

ومهما يكن من امر فإن قوى المعارضة، وبرغم كل "العنتريات" ومحاولات الغموض والالتباس التي يبديها الرئيس المكلف وفريقه السياسي حيال المستقبل القريب، فإنها تستبعد ان يغادر الحريري منطق حكومة الوحدة الوطنية او يفكر بصيغ حكومية اخرى، وهو يعلم تمام العلم انها لم تعد تناسب وتلائم المرحلة الحالية مثل حكومة التكنوقراط.

وفي كل الاحوال لم يعد بمقدور الرئيس المكلف ان يعاود سيرته الاولى، اي سيرة امرار الوقت و"فبركة" السيناريوهات لكي يتهرب من عملية تأليف حكومة الوحدة الوطنية، على غرار ما حصل في مرحلة التكليف الاولى. فإذا كان الدستور لا يحدد للرئيس المكلف مهلة زمنية لتقديم حكومته الى رئيس الجمهورية، فإن الامر يبدو مختلفا هذه المرة وخصوصاً ان رئيس الجمهورية مضطر الى ارسال اشارات مستمرة للرئيس المكلف لتقديم حكومته على الاقل انطلاقاً من صلاحياته كـ"حكم" وكـ"حارس للدستور".

واذا كان رئيس مجلس النواب نبيه بري مستمرا في صيامه عن الكلام والادلاء بالتصريحات، فالثابت انه يبقى مستنكفاً من الحراك السياسي.

والواضح ان حدث زيارة وفد حركة "امل" لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في هذه المرحلة ينطوي على رسالة سياسية فحواها ان عليه ان لا يفكر جدياً في تجاوز صيغة الـ"15-10-5".
الانتقاد/ العدد 1365 ـ 25 أيلول/ سبتمبر 2009

2009-09-25