ارشيف من :أخبار عالمية
خاص الانتقاد.نت: قراءة في دفاتر الوحدة والإنفصال
لؤي توفيق حسن(*)
28 أيلول تاريخٌ على موعد مع الهزيمة والشؤم. فقد شهد في العام 1961 اغتيال الوحدة السورية ـ المصرية أول تجربةٍ جادة في عصرنا نحو الهدف المنشود في وحدة العرب. وظل هذا التاريخ متربصاً بكل أملٍ واعد في حياتنا حتى شهد وفاة جمال عبد الناصر قائد الأمة وملهمها عام 1970 .
ليس مطلوباً ولا مجدياً الوقوف على أطلال هذه التجربة الوحدوية بالحسرةِ أو الأسف. بقدر أن نستعيدها إلى حيز الوعي درساً لأخذ العبرة ثم لنصل إلى السؤال المركزي:
هل كان ممكناً تفادي الانفصال؟! .
لقد كانت الوحدةُ فكرةً سوريةً في الصميم. وكانت بالممارسة مطلباً سورياً بكل ما للكلمة من معنى. المفارقة بعد ذلك إن الإنفصال جاء بأيدي سورية. ولكن ليس بالمعنى الكامل.
أما أن تأتي الفكرةُ من سوريا فهذا من كونها مرتع حركة النهضة العربية في مطلع القرن الماضي. ومنبع الأفكار القومية وحركاتها السياسية.
وأما أن الوحدة كانت مطلباً سورياً فهذه استولدها تقاطع الهدف مع مصر عبد الناصر في مواجهة الأحلاف وسياسية إملاء الفراغ. سيما وأن سوريا تعرضت لضغوطاتٍ داخلية وخارجية لدفعها للالتحاق في مشاريع الغرب تلك. بلغت ذروتها أعوام 56، ثم 57 بالتهديد التركي في اجتياحها.
لقد كانت مصر عبد الناصر رأس الحربةِ في مواجهة تلك المشاريع، خاضت دونها مواجهة السويس التي خرج بعدها عبد الناصر قائداً للأمة وملهماً وأملاً لجماهيرها.
أما النظام العربي فكان أشبه بحاله الآن. مستسلماً . منبطحاً . بل منه من كان شريكاً مقاتلاً في سبيل مشروع الأحلاف مع الغرب. مثل عراق نوري السعيد.
حيال هذا أصبح هدف (التحالف العربي – الغربي) آنذاك هو تطويق مصر عبد الناصر. والمدخل إلى ذلك هو سورية بالذات ليس لكسر محور دمشق – القاهرة وحسب الذي أعطى عبد الناصر نفوذاً وتأثيراً أوسع. وإنما لأنها هي مفتاحُ المنطقة. أو كما قال الصحفي البريطاني باتريك سيل: "إن من يقود الشرق الأوسط يلزمه السيطرة على سورية" .. – ما أشبه الامس باليوم- .
من الصحيح أن الوحدة مطلبٌ سوري على المستوى الشعبي. ولكن الصراع الداخلي فيها آنذاك بوصفه امتداداً للصراع الإقليمي. فرضها كجزءٍ من معادلة الداخل. فالنخب القومية أرادت أن تستقوي بها لتحسم صراعها مع الساسة التقليديين. وكان معظمهم راغباً في سريرته بالالتحاق بمشاريع الغرب . وإنما يخاف الجيش الذي كان رافضاً لها. فضلاً أنه صاحب اليد الطولى في رسم السياسة السورية . أما هذا الأخير فقد وجد في الوحدة مخرجاً لانقساماته في اجنحةٍ متناحرة . ما عاد يجمعها إلا قاسم مشترك وحيد هو إجماعها على شخص عبد الناصر قائداً.
وفي لحظةٍ من الوعي بالمخاطر التي تهدد "الكيان السوري" الواقع بين مؤامرات الخارج وصراعات الداخل . وفي لحظة أيضاً من اليأس من مواجهة هذا كله . حضر وفدٌ عسكري إلى القاهرة مطلع عام 1958 يمثل هذه الأجنحة . ووقف ضباطه أمام عبد الناصر مستغيثين بصرخةٍ محفورةٍ في ذاكرة التاريخ..
"انقذنا من السياسيين ، ومن أنفسنا. وافعل بنا ما تريد".
لقد شكلت الوحدة محطة سياسيةً مفصلية بل ومنعطفاً تاريخياً في المسألتين الثقافية والإجتماعية. فقد فتّحت عيون الشعب المصري على فكرة القومية العربية. فيما كان العديد من نخبها منكفئةً على فكرة (الأمة المصرية) بما فيهم معظم "الضباط الأحرار" . باستثناء عبد الناصر بالطبع ، وربما قلةٍ قليلةٍ معه لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
وبالرغم من جريمة الإنفصال التي كان يمكن أن تدفع إلى ردةٍ قطرية في مصر إلا أن الفكرة القومية تنامت وباتت جزءً من ثقافة شعبها. ولا شك أبداً أن الفضل يعود للأفق الرحب لقيادة عبد الناصر التاريخية. حتى انه بعد الإنفصال أبى أن يتنازل عن إسم دولة الوحدة فأبقى "الجمهورية العربية المتحدة" إسماً لمصر وظلت عليه حتى جاء السادات وألغاه في إطار مسعاه لتصفية الناصرية.
أما في المسألة الإجتماعية فقد شهدت سنوات الوحدة قفزات أعادت تشكيل المجتمعين السوري والمصري لا سيما منها مشاريع الإصلاح الزراعي التي أنهت الإقطاع ناقلة مئات الألوف من الفلاحين. من اجراء إلى مزارعين من صغار الملاك. وزاه تأسيس بنيةٍ ماديةٍ للصناعة عبر إرساء مؤسساتٍ ضخمة للقطاع العام. وتعزز مفهوم "الدولة الراعية" بقفزاتٍ غير مسبوقة في التعليم والمواصلات والكهرباء والتوسع في الأراضي المستصلحة. حتى بات ما أنجز على مدى ثلاث سنواتٍ ونصف من عمر الوحدة معادلاً لمجمل ما أنجزته عهود ما بعد الإستقلال في سورية. بل هو بلغ الضعف في قطاع التعليم. وأكثر من ذلك بمقاييس التنمية الريف الشاملة . هذه حقيقةٌ لله وللتاريخ وللأجيال . تضحد أرقامها تلك الدعاوى التي استهدفت الوحدة منها أنها "سرقت خيرات سورية.." !!! .
غير أن كل ما سبق لم يشكل للوحدة حصناً حصيناً لأنه لم يأخذ مداه التراكمي. فضلاً عن انها كانت تسبح – وهي فتية – عكس التيار. حيث وجد فيها الخارج المتمثل بتحالف النظام العربي – الإقليمي – الغربي. كسراً لميزان القوى في المنطقة. وتهديداً لمصالح أطرافه. فكان استهدافها أولوية عنده.
ليس صحيحاً بما تحذلق به بعض المثقفين أو صوِّر لهم بأن تجاوزات الأجهزة الأمنية أبعدت الناس عن الوحدة ما جعلها سهلة المنال والدليل نوجزه في نقطتين:
الأولى، الممانعة الشعبية العارمة التي واجهها الإنفصاال منذ يومه الاول. تظاهرات عمّت المدن السورية. قمع بعضها بالرصاص وسقط فيها عددٌ من الضحايا شهداء أو جرحى . أما موقف الجيش فقد تأرجح حيال المغامرة العسكرية للانقلابيين بين العصيان المسلح وتردد باقي الوحدات العسكرية، أو قادتها بالأحرى!!. والحقيقة أن السِمة العامة لما كان يسمى "بعهد الإنفصال" هي العزلة الشعبية وعدم الاستقرار. وأبرزها بعد ستة أشهر ما شهده الشمال من حركةٍ عسكرية عرفت بـ "ثورة حلب". وكادت أن تطيح بالانفصال لولا الحسابات الضيقة لبعض كبار ضباط الجيش آنذاك.
أما النقطة الثانية التي يجهلها كثيرون فهي أن بعض ضباط الإنفصال من المشاركين في انقلاب 28 أيلول 1961 قد أدركوا وحيال ما سبق ذكره أنهم باتوا في ورطة حقيقية. فذهب ثلاثةٌ من كبارهم بعد أشهر من الإنفصال قاصدين القاهرة سراً عارضين على عبد الناصر إعادة الوحدة بلا شروط. إلا من واحدٍ وهو العفو عنهم وعدم محاكمتهم!! . لكن الرجل رفض عودة الوحدة من الباب الذي خرجت منه لا سيما وأنه كان يعول على الممانعة الشعبية . وما تنامى إلى مسامعه أيضاً عن تبلور تنظيمٍ وحدويٍ – من (الناصرين)- في الجيش يخطط للاطاحة بالإنفصال. فكانت " ثورة حلب" السالفة الذكر.
إذاً لماذا سقطت الوحدة؟! .
نظرياً كانت الوحدة تحتاج لفسحةٍ من الزمن لبناء جيلٍ في سورية ومصر يشترك في مستوى الوعي الثقافي، والأطر السياسية. وعلى قاعدة اقتصادية تتشكل منها مصالح متداخلة.
لكن عملياً فإن الرعاية تحتاج إلى حاضنة متراصة من النخب القومية . أما الذين ذهبوا من سورية مطالبين بالوحدة مطلع 1958. فقد أرادها بعضهم في خدمة حساباته وعندما اصطدمت هذه مع حسابات الوحدة . تنكروا لهذه الأخيرة!. بل وفيهم من شارك في التآمر عليها!.
أما البعض الآخر ممن طلب الأمر مشدوداً للفكرة نفسها فقد جاء بهم عبد الناصر إلى العمل السياسي من صفوف الجيش في الغالب. ما أفقد هذا الاخير عناصر مناعته. ولم تغتني الحياة السياسة بهم. بل ربما العكس لافتقارهم إلى التجربة والخبرة المدنية.
وبموازاة هذا لم يكن في الجانب المصري من يملك النضج لا سيما أولئك الذين أوكل إليهم عبد الناصر الشأن السوري. ما جعلهم غير متفهمين لتعقيداته. ومن أبرز هؤلاء المشير عبد الحكيم عامر الذي أوصله قِصر نظره وقلة بصيرته إلى تمكين بعض المشبوهين من التسلل إلى مواقع حساسة في القوات المسلحة. فخرج الإنفصال من عقر بيته ، وكان قائد حركة الإنفصال مدير مكتبه الخاص العقيد أديب النحلاوي!!!.
لا شك في أن قراءةً لدفاتر الوحدة والإنفصال تقودنا لنتائج عدة. لكن أهم العبر يكمن في عنوانين: المحاسبة. والأنا .
فلو حاسب عبد الناصر المشير عبد الحكيم عامر على قصر نظره ذاك. لا سيما وانها الخطيئة الثانية لهذا الأخير بعد أداءه المرتبك في حرب السويس. لو فعل لكان على رأس الجيش المصري في حزيران/ يونيو 1967 رجلٌ آخر غير عبد الحكيم عامر.
ولو قرأت بعض النخب القومية في سورية آنذاك تاريخ الأندلس جيداً لألقت بأنانياتها. ولبقيت الوحدة. طارحة أفقاً أوسع وإمكانياتٍ أرحب. ربما لن تجرأ معها "اسرائيل" على ما أقدمت عليه صيف 1967 . هزيمة للجميع ما زلنا ندفع اثمانها حتى الآن.
ان قراءة الصفحات المريرة من التاريخ ليست لنكء الجراح . ولكن طلباً للعبرة. فالذين لا يقرأون التاريخ جيداً يجازفون بتكراره.
(*) كاتب من لبنان
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018