ارشيف من :آراء وتحليلات
المشهدان الدولي والاقليمي أمام متغيرات عميقة: التجاذب في لبنان مستمر إلى ما بعد الانتخابات الاميركية

كتب مصطفى الحاج علي
تشهد الساحة الدولية تبدلاً سريعاً ومفاجئاً، بعضه على الأقل في موازين القوة والقدرة، ما من شأنه أن يترك تداعياته الاستراتيجية على صورة النظام الدولي الذي تحاول الولايات المتحدة صوغه لمصلحتها بالكامل منذ سقوط نظام ثنائي القطبية مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وعلى مسار الأوضاع الاقليمية المؤثرة بدورها في مسار الأمور الداخلية لأكثر من بلدٍ، ومن ضمنها بلا شك لبنان الذي يخضع بقوة للمتغيرات الخارجية، والذي يبدو اليوم يتحرك وسط مناخات متناقضة تتراوح بين حد المصالحة وحد استمرار التوتر الأمني الذي يشهد لعبة متنقلة بين المناطق، والخاضع بدوره لاستحقاق الانتخابات النيابية الذي يفترض أن يشهد أولى خطواته خلال هذا الأسبوع من خلال اقرار قانون الانتخابات.
التبدلات الدولية
أبرز المؤشرات على هذه التبدلات تتمثل بانهيار مشروع أميركا الامبراطوري الذي كان يعمل على فرض هيمنة اميركية منفردة على العالم. هذا الانهيار بدأ مع تعثر الخطط والبرامج والعمليات العسكرية على الأرض، خصوصاً بعد غرق قوات الاحتلال الاميركية في المستنقع العراقي، ثم الأفغاني، وصولاً إلى الجبهة اللبنانية في عدوان تموز.
وقد جاءت التعبيرات القصوى لهذا الانهيار بالضربة الاستراتيجية التي مُنيت بها الأسواق المالية مؤخراً، والتي كلفت الاقتصاد الاميركي ما يقرب سبعمئة مليار دولار اميركي.. صحيح أن لهذا الانهيار الاقتصادي أسبابه وسياقاته الداخلية، لكن مما لا شك فيه أن له أيضاً أسبابه الخارجية المتمثلة على نحو خاص بكلفة الحروب الاميركية في العراق وأفغانستان، والتي بلغت في مجموعها ما يقرب ترليون دولار حتى الآن، وهذا ما وضع طموحات المركب الصناعي ـ العسكري الاميركي في حالة تناقض مريع مع النتائج، حيث ان المردود المالي للهيمنة على النفط وعلى فتح الأسواق أمام السلع العسكرية، كان أقل بكثير من كلفة الحروب مجتمعة.
أما التعبيرات السياسية لهذا الانهيار فقد تمثلت بالفشل الاميركي في إحداث أي تغيير فعلي في صورة الشرق الأوسط، وفي صمود الدول المستهدفة وفي طليعتها إيران وسوريا وقوى المقاومة والممانعة في المنطقة، بل تمكنت هذه الدول والقوى من أخذ زمام المبادرة في أكثر من مكان، لتنتقل من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم.
ومن ثم جاء الحدث الجورجي ليوسع من مساحة هذا الإخفاق، وليرسل رسائل واضحة عن انتقال روسيا من موقع رد الفعل إلى موقع الفعل، ومعها العديد من الدول الصاعدة كالصين والهند وسواهما.
هذه المعطيات دفعت خمسة وزراء خارجية سابقين ينتمون إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلى اجراء تقويم مشترك لموقع الولايات المتحدة اليوم، ومن موقع الانتقاد لسياسة بوش الحالية، وإعطاء النصائح الضرورية للإرادة القادمة.. أما أبرز ما خرج به هؤلاء فهو التالي:
أولاً: على واشنطن أن تتأقلم مع صعود قوى جديدة على المسرح الدولي.
ثانياً: ان تعاون الولايات المتحدة مع بلدان أخرى لحل القضايا الدولية علامة قوة.
ثالثاً: يجب العودة إلى استخدام ما يعرف بـ"القوة الناعمة" بدلاً من "القوة الصلبة"، أي التدخل العسكري المباشر.
رابعاً: ضرورة الانخراط الدبلوماسي مع طهران ودمشق، وعلى الولايات المتحدة أن تكون قوية كفاية لتقول للكيان الإسرائيلي انه لا يمكنها تحمل علاقات سيئة مع ايران، وأنه لا بد من التفاوض معها حول رؤية واشنطن للشرق الأوسط. وأما بالنسبة الى سوريا فلا بد من العمل معها للتوصل إلى اتفاق سلام بينها وبين الكيان الاسرائيلي، لأنه أسهل من المسار الفلسطيني ـ الاسرائيلي. والأهم هنا ما قاله بايكر من أن واشنطن تستطيع أن تتعايش مع ايران نووية.
خامساً: ضرورة التعاون مع روسيا، وبالتالي تجاوز الأزمة الحالية معها الخاصة بجورجيا.
الخلاصة الأساسية لكل ما تقدم، أن أي ادارة أميركية ستخلف بوش ستجد نفسها محكومة على الأقل بتغيير أساليبها وتكتيكاتها، خصوصاً في مسألة الحروب.
وبين ثنايا التقويم السابق خلاصة استراتيجية أساسية مفادها أننا أمام إعادة تشكل للنظام الدولي يفتح الطريق أمام نظام جديد إما متعدد الأقطاب تلعب فيه الدول الاقليمية الكبرى أدواراً أساسية، وإما نظام بلا قطبية كما يقول ريتشارد هاس في آخر دراسة له في الـ"فورين افيرز"، ومن ثم فنحن نشهد تبدلا نوعيا في توزع مواقع القوة والأدوار لغير مصلحة الولايات المتحدة، من دون أن يعني ذلك أن هذه الولادة ستكون سهلة، وأن القوى المستفيدة من النظام الدولي السابق ستتنازل بسهولة عن مصالحها، بل ستكون إزاء ولادة معقدة وصعبة يسعى فيها كل طرف لضمان مصالحه وتثبيت مواقعه وأدواره، أو لإدخال تعديلات ما لمصلحته. باختصار نحن أمام مرحلة انتقالية معقدة وصعبة ولا يتوقع أن تكون سهلة، وككل مرحلة انتقالية سيسعى فيها الأطراف المعنيون لاحتواء خسائرهم وتحسين ظروفهم وإمكانياتهم حتى إذا ما حانت لحظة الحقيقة ولحظة القرارات الكبرى، تكون هذه الأطراف جاهزة لها.
لبنان والمخاض الدولي والاقليمي
لبنان يتحرك وسط هذه المتغيرات العميقة دولياً وإقليمياً، ما يفرض على مجمل الأطراف إعادة تكييف مواقعها وأدوارها استعداداً لمواجهة لحظة القرارات الكبيرة. وإذا كنا نشهد مرحلة انتقالية معقدة وصعبة دولياً وإقليمياً، فلبنان ليس بمنأى عنها، وهو ـ بالتالي ـ يشهد مرحلة انتقالية من الماهية نفسها، وهذا ما يفسر الجمع بين مناخات التصالح ومناخات التوتر الأمني، التي تشكل في احدى وظائفها إما اعتراضاً من القوى المتضررة أو محاولة منها لتحسين ظروفها وأوراقها بما يمكنها من خوض عملية تفاوض متوازنة نسبياً، خصوصاً في ظل الخلل الكبير الذي أصابها بعيد أحداث السابع من أيار.
وإذا كان استحقاق الانتخابات النيابية هو المحطة الأبرز لإعادة تظهير موازين القوة الداخلية، وإذا كان قانون الانتخابات النيابية يؤدي دوراً أساسياً ومسبقاً في تحديد الأوزان والأحجام النيابية، وفي تحديد المتضررين من المنتفعين، وفي تحديد وجهة التحالفات الانتخابية، فمن شأنه بدوره أن يشكل محطة تجاذب واشتباك مهمة، وأن يكون احدى المحطات المستهدفة ايجاباً أو سلباً.
وإذا سلمنا بالمقدمات التالية نستطيع أن نقرأ بوضوح حقيقة ما يجري سواء بالنسبة للتصالحات أو بالنسبة للأحداث الأمنية.
هذه المقدمات هي:
أولاً: ان المعارضة ذاهبة إلى الانتخابات النيابية بصف موحد ومتراس، ولا أحد يتوقع أن يحدث في ما بينها خلل في التفاهم حيث يقتضى ذلك.
ثانياً: ان حال فريق 14 آذار مختلف تماماً، فهو فريق مترهل فاقد لأي خطاب سياسي فعلي، ومنقسم على نفسه، حيث لكل طرف فيه حساباته الخاصة المستندة إلى قراءته الخاصة وظروفه الخاصة.
وفي هذا الإطار تبدو القوات اللبنانية أكثر الأطراف تضرراً، فهي تواجه معضلة مع حلفائها من جهة، ومع الساحة المسيحية من جهة أخرى.
أما تيار المستقبل فيبدو في وضعٍ غير مريح داخلياً، حيث تتنازعه اتجاهات متناقضة، منها من يقف على يمين النائب الحريري، ومنها من يقف على يساره.
ثالثاً: إذا كانت المعركة هي على الأكثرية في المجلس النيابي، فمن الطبيعي أن يعمل كل فريق للفوز بها. ومن نافل القول ان كل الظروف السياسية والشعبية تقول ان احتفاظ الأكثرية الحالية بأكثريتها هو موضع شك كبير، بل ثمة من هو على يقين بأنها ستخسرها.
رابعاً: ان منطلقات التصالح هي غيرها منطلقات الحسابات النيابية، وإن كانت بالنسبة للبعض تشكل مصلحة تكتيكية لخدمة أغراض انتخابية.
بناء عليه، يمكن تسجيل الاستنتاجات الرئيسة التالية:
أ ـ إن بوصلة المصالحات ليس بالضروري أن تفضي إلى تحالفات انتخابية جديدة.
ب ـ إن قانون الانتخابات مستهدف، وكذلك الانتخابات، خصوصاً من القوى المتضررة منهما، من دون أن يعني ذلك أن هذه القوى ستنجح في تعطيل أيّ منها، لا سيما أن البدائل عنهما ستكون أكثر خطورة على هؤلاء المتضررين.
ج ـ ان الأطراف المتضررة من المصالحات ومن قانون الانتخابات، هي التي لها مصلحة أكيدة في إبقاء الفلتان الأمني على حاله، ظناً منها أنه يشكل المدخل لشد العصب الانتخابي أو المذهبي أو الطائفي، وظناً منها أنه يشكل ورقة ضغط على المعارضة، ما قد يدفعها إلى تقديم تنازلات تؤدي محصلتها إلى انتاج توازنات جديدة.
خلاصة القول هنا، ان كل الحراك الداخلي يحاول فتح الأوضاع على كل الاحتمالات بالتساوق مع الاحتمالات التي يمكن أن تحكم المرحلة المقبلة، خصوصاً بعيد الانتخابات الاميركية. ولذا من المتوقع بقاء الأمور على ما هي عليه من تجاذبات وتضارب في المناخات إلى تلك المرحلة.
الانتقاد/ العدد1301 ـ 23 أيلول/ سبتمبر 2008