ارشيف من :آراء وتحليلات
بقلم الرصاص:"موتوا أيها الفقراء.. أو"

كتب نصري الصايغ
1 ـ الفقراء.. من يعرفهم
الفقراء الذين يتكاثرون في هذا العالم، غير موجودين.
كان العالم منقسماً ما بين شرق وغرب، شمال وجنوب، دول متقدمة ودول متخلفة، خير وشر، أغنياء وفقراء، وكانت هذه التسمية على قسوتها بارزة للعيان.
تغيّر العالم:
لم يعد العالم منقسماً بين أغنياء وفقراء، بل بين أغنياء وأشد غنى وأقل غنى، بين مجموعات مالية متوحشة ومفترسة، ومافيات المضاربات والشركات المتعددة الجنسيات.. أما الفقراء فمن يحسب حسابهم.
ارتفع سعر الدولار، فانشغل العالم بنصيب الشركات والمصارف والموازنات فقط، لا غير. سقط سعر الدولار، فانشغل العالم بنصيب الشركات والمصارف والموازنات ذاتها فقط، لا غير.
جُنّت أسعار المواد الغذائية الضرورية، فتحدث الإعلام عن أزمة انتاج وأزمة أسواق، ونادراً ما تحدثوا عن جائعين.. ولما عرفوا أن الجوع يمكن أن يكون دولار العنف وبترول الثورات والاضطرابات، سارعوا إلى عقد مؤتمر دولي كلف الدول ما يطعم الجائعين في العالم مدة شهر كامل.
الفقراء الثائرون غير موجودين..
هناك دائماً سلة مهملات في التاريخ، سلة نفايات على قارعة الحضارات، هذه السلال تضم أكثر من 17 مليون جائع، يضافون إلى جائعين بالملايين يموت منهم كل ثلاث ثوانٍ طفل مفطوم عن الطعام منذ شهور.
إنه عالم الأغنياء، عالم الشركات، عالم العولمة الأبشع في تاريخ الأوبئة البشرية.
2 ـ الأغنياء.. من يعرفهم؟
كي يتشرف أي متموّل في الزمن الراهن بلقب غني أو ثري، عليه أن يخضع لامتحان حسابي دقيق. فكي يكون الغني معترفاً به، يجب أن يكون واحداً من أصل خمسمئة ثروة. وعليه كي يدخل الغني هذا النادي، عليه أن يحوز في محفظته مبلغا يفوق مئة مليون دولار أميركي، فقط، لا غير.
في العام 1997، كان يكفي للمتمول أن يحوز 25 مليون دولار كي يدخل نادي الأثرياء.
مصادر الثروة "الشرعية" في عالم الغاب الدولي، متأتية من الأنشطة "الشرعية"، التالية، أو لنقل إن ثروة المليارديرية (1125 ملياديرا)، تتحصل "شرعياً" في العمل في القطاعات التالية.. (ملاحظة: العمل "الشرعي" محصّن بالنهب "الشرعي" والتشريع الدولي لحرية المافيات في الأسواق، ولحيتان المضاربة المتصفة بالقتل الرحيم، مقابل مكافآت وجوائز انسانية).
مؤسسة "فوربس" المتخصصة بتماسيح المال صنفت مصادر الثروات العملاقة التي يملكها أشخاص أحياء يرزقون (طبعاً مع موت معلن لضمائرهم)، هي التالية:
12% يعملون في عالم المال.. (وحوش المال أسقطت امبراطوريات مصرفية في الولايات المتحدة الاميركية، فكوفئت بأن ضخت الدولة من أموال المكلفين الاميركيين، مبالغ وصلت إلى 700 مليار دولار).
9.2% يعملون في قطاع العقارات.. (كانت العقارات أبرز أسباب الأزمة العالمية في القطاع المالي.. وحوش البناء والاعمار والعقارات افترست الأموال، وبات على المكلفين دفع الثمن الباهظ. الأغنياء عندما يخسرون يساعدهم الفقراء لتعويض أرباحهم).
9% يعملون في حقل الميديا والاعلام.. (لم تعد وسيلة اعلامية ذات نفوذ محكومة من اعلاميين، فالشركات العملاقة اشترت العقل والصوت والصورة في خدمة زيادة المال، والمضاربات العقارية والترويج لسلعة الموت والسلاح.
8.3% يعملون في استثمارات شتى.. و8% يعملون في تمويل نشاطات ذات علاقة بالترفيه والتسلية.
7% يستثمرون أموالهم في عالم الصناعات المتعددة، و7% في التجارة (خاصة تجارة المواد الغذائية، وإلا فكيف يجوع ثلث الكرة الأرضية؟!).
5% يعملون في قطاع النفط والغاز، و3.8% يعملون في قطاع الغذاء، والبقية تتوزع في صناعة الثياب وصناعة الأدوية والصحة والتسلية والطاقة والتأمين والكيمياء والتبغ.
يتعذر معرفة ثروات صناعات الأسلحة وأسواق الرقيق الأبيض وسلعة الفساد.
وتحوز الولايات المتحدة المرتبة الأولى بامتياز في عدد الأثرياء (المليادير).
ولا يبدو أن الأغنياء سينقرضون، ففي السنوات العشر الأخيرة تضاعف عدد المليارديرية خمس مرات، فيما ظهرت ملامح أثرياء جدد في روسيا (اقتصاد المافيات ما بعد الاشتراكية)، وفي الصين (حيث يجري تشغيل الأطفال والمساجين بالسخرة)، وفي الهند (حيث مستوى الفقر مذهل ومثير).
باختصار 40% من عدد السكان في العالم، وفق تقرير الأمم المتحدة للعام 2007 ـ 2008، حصتهم اليومية للبقاء على قيد الحياة هي أقل من دولارين، وحصتهم من المداخيل العالمية 5% فقط، فيما يجمع الـ20% من السكان الباقين ثلاثة أرباع الثروة العالمية.
3 ـ الحكام.. من يعرفهم؟
مسكين سقراط، كان يحلم بحكم مثالي، تجرع السم، ولكنه كان وحيداً.
مسكين أفلاطون، كان يحلم بجمهورية مثالية، تجرع الخيبة، ولكنه كان وحيداً.
مسكين الفارابي، كان يحلم بمدينة فاضلة، تجرع الانحطاط، ولكنه كان وحيداً.. مساكين جداً أصحاب اليوتوبيات بلا شك،ان ماكيافيللي يسخر منهم وينعتهم بالهبل، لأنهم حاولوا ادخال الاخلاق في السياسة، والقيم في المال.
مساكين نحن، لأنا ما زلنا نعتبر أن العمل مصدر الثروة، فيما مصدر الثروة هو السرقة..
نعم السرقة..
والدول الحديثة لم تعد تسرق جهاراً ونهاراً، ولم تعد تعتمد على الوسائل البدائية للغزو، أصبحت تسرق "شرعياً"، فالعلم الرأسمالي اليوم شرّع في قوانين التجارة وسلطة الاستثمارات وألاعيب البورصة، السرقة بكامل أوصافها.
السرقة، والسرقة فقط، هي مصدر الثروة.
فعندما يرى واحد منا ثرياً كبيراً، ليس عليه أن يسأله: من أين لك هذا؟ لأنه عليه أن يعرف أن هذا الواقف أمامه سارق كبير.
وقديماً قيل: الجائع يسرق بيضة أو دجاجة بكاملها،
أما الثري فيسرق البلد والبلاد.
قليل من التاريخ مفيد: الاستعمار سرق العالم المستعمر، نهبه عن بكرة أبيه.
قليل من الحاضر أكثر فائدة: الحكومات اليوم في العالم، في 99% من سلطاته السياسية، ركائزها تحالف المال والاعلام والجنس (النجوم) والسلطة مع شركات السلاح.. وقد انضم إلى هذا التحالف أصحاب العقول الذين أضاء لهم المال الطريق إلى الجمهورية الفاضلة، بالغصب والقوة والاحتيال والريال يولتيك.
هناك فبركة راهناً، تفبرك حكاماً وقادة ومفكرين وإعلاميين ودعاة ومبشرين، يعملون جميعاً في خدمة الرأسمال القادم إلى حظائره من دون عمل.. غير "عمل" السرقة.
هناك فبركة راهناً، تفبرك خططاً وقرارات وتشريعات ومضاربات وإعلانات وثقافات، بهدف تكبير حجم الاقتصاد العالمي على مستوى الكرة الأرضية، وتصغير حجم المستفيدين منه، إلا بالفتات.
هناك فبركة عظمى تفبرك فقراء يسقطون سهواً من آلة العولمة الساحقة.
فيا فقراء العالم.. موتوا جوعاً.
4 ـ أقوال.. هل تعرفونها؟
يقول الرسول: "ما آمن من بات شبعانا وجاره جائع".
ويقول الإمام علي (ع): "ما جاع فقير الا بما مُتّع به غني".
وأنت.. ماذا تقول؟
لعل القول وحده لم يعد كافياً.
الانتقاد/ العدد 1302 ـ 26 أيلول/ سبتمبر 2008