ارشيف من :آراء وتحليلات
هيل في بيروت: بيع الأوهام مجدداً

كتب مصطفى الحاج علي
في أي إطار سياسي تتموضع زيارة كل من نائب وزيرة الخارجية الأميركية دايفيد هيل ونائب وزير الدفاع الأميركي إلى لبنان؟
ما هي دوافع وأهداف هذه الزيارة في هذا التوقيت بالذات؟ وهل تملك الإدارة الأميركية الحالية القدرة على ترجمة وعودها إلى مواقف وإجراءات عملية، أم أن الحركة الأميركية تجاه لبنان مجرد حركة رفع عتب؟
من نافل القول ان الاهتمام الأميركي بلبنان بلغ منذ عام 2004 مستوى غير مسبوق، لدرجة اعتبر فيها إبان عدوان تموز المشؤوم عام 2006 المدخل لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
وقد عبر هذا الاهتمام عن نفسه بسلسلة دؤوبة من المواقف والزيارات والقرارات الدولية، يبقى أبرزها القرار 1559 والقرار 1701. وكان الرئيس الأميركي على شدة مشاغله لا يكاد يمر يوم من دون أن يكيل المدح لرئيس الحكومة السنيورة، أو لفريق 14 شباط، أو أن يصدر موقفاً يذكر بالمواقف الأميركية الداعمة لاستقلال لبنان وحريته وسيادته.
وقد سجلت زيارات كثيرة لمسؤولين أميركيين إلى لبنان، إلا أن البارز فيها مؤخراً هو عدد الزيارات التي قام بها عسكريون أو سياسيون، لكن لهم وظيفتهم الأمنية، وكلها كانت تظهر اهتماماً قوياً بالمؤسسات العسكرية والأمنية، لا سيما الجيش.. وهذا الاهتمام اتخذ طابعاً مريباً في الحقيقة، لأنه كان يتزامن مع حملات داخلية للفريق الأميركي في لبنان، تدعو إلى إحداث تغيير في عقيدة الجيش، وإلى اعادة النظر في هيكليته، وحتى في وظائفه ومهامه الأمنية والعسكرية. كل ذلك إدراكاً من الولايات المتحدة أن المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الوحيدة التي نجحت إلى حد كبير في المحافظة على وحدتها وتماسكها، ونجحت في قطوع الامتحان الخاص بمواجهة تيار سلفي هو تنظيم "فتح الإسلام"، وإن بكلفة باهظة. بكلمة أخرى، لقد كان الاهتمام الأميركي بمؤسسة الجيش يندرج في سياق متكامل: الأول أن يواكب مشروع الانقلاب السياسي الذي كان يديره داخلياً فريق 14 شباط، انقلاباً موازياً ومتزامناً في مؤسسة الجيش، لذا جرت محاولات عديدة لخرقه وتشكيل ما يشبه قوى داخل صفوفه، من دون أن تصل إلى نجاحات نهائية. وأما الثاني فيتمثل في إلحاق الجيش بالحرب الأميركية على الإرهاب، من خلال إقحام دور وظيفي جديد فيه. وقد جرى العبور إلى هذا الدور الوظيفي الجديد من خلال معمودية دم في مخيم نهر البارد.
وإذا كان الانقلاب داخل الجيش، أو قلب الجيش ليصبح منسجماً أكثر مع الانقلاب السياسي لفريق 14 آذار قد فشل، فذلك لفشل الانقلاب نفسه، ولوعي قيادات الجيش، وللحصانة النسبية لكن المعتد بها، التي تتصف بها مؤسسة الجيش.
واليوم تأتي الحركة الأميركية تجاه لبنان في ظل معطيات ومتغيرات جد نوعية وكبيرة، أبرزها:
أولاً: ان أميركا اليوم هي غير أميركا بالأمس، حيث تراجع دورها العالمي والإقليمي إلى حد كبير. وفي أقل الاحتمالات فإن هذا الدور هو في مرحلة مراجعة وإعادة نظر، وبالتالي في مرحلة انتظار قسرية لما بعد الانتخابات الأميركية الرئاسية القادمة.
ثانياً: مهما كان مستوى الاهتمام الأميركي بالجيش، فهو لا يمكن إلا أن يأخذ بالاعتبار جملة وقائع صلبة: الأولى موقف الكيان الإسرائيلي الذي يبقى له رأيه الأول والأخير في هذا الموضوع. الثانية واقع الجيش نفسه، فواشنطن لن تسلح جيشاً لا تضمن ولاءه بالكامل لها. والثالثة الواقع السياسي المحيط، ما يعني الخشية من أن يقع هذا السلاح في النهاية بيد خصومها.
إلا أن هذا لا يلغي دوراً خطيراً يمكن أن تقوم به واشنطن متوسلة اليه بعض الاتفاقيات الملزمة التي قد تتيح تدخلاً أميركياً بذرائع لوجستية أو إدارية أو برامج تدريب وتسلح.. إلخ، وهذا ما يحتاج إلى وقفة خاصة.
ثالثاً: زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الأخيرة إلى واشنطن ولقاؤه الرئيس الاميركي بوش، حيث قيل ان واحدة من النقاط التي أثيرت كانت مسألة تسليح الجيش.
رابعاً: واقع فريق 14 آذار الذي يعاني اليوم من تصدعات عميقة، ومن واقع نفسي ومعنوي صعب، جراء الضربة التي تعرض لها في أيار، وجراء رسم قياداته الطارئة مسافات فاصلة وعميقة عنه، وجراء ما يراه من ضعف أميركي وتعويم للعلاقات الأوروبية السورية والأميركية السورية.
خامساً: الوضع القوي لسوريا اليوم، وكذلك لإيران، معطوفاً على الوضع القوي للمعارضة أيضاً.
كل ما تقدم يقودنا إلى استخلاص الدوافع والأهداف التالية لزيارة هيل ومن معه إلى لبنان:
ـ إن الزيارة تندرج في سياق الاهتمام الطبيعي للولايات المتحدة بلبنان من منطلقين: الأول فريقها العامل داخلياً، أي فريق 14 آذار، والثاني الجيش والمؤسسات الأمنية.
ـ بالنسبة الى فريقها، فثمة هدف أميركي قوامه إشعار هذا الفريق بأن واشنطن ما زالت متمسكة به، وبأنها ما زالت داعمة له، وأن لا شيء سيتغير في سياستها إزاء لبنان وسوريا تحديداً.. وكل ذلك لطمأنة هذا الفريق ومنحه جرعة معنوية، عسى أن تساعده على الثبات حتى مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية.
ـ بالنسبة الى الجيش، تبدو الأمور أكثر حساسية وخطورة، لأنه لا أحد يتصور ـ مجرد تصور ـ أن الولايات المتحدة ستسلح الجيش بما يقدره على الدفاع عن السيادة اللبنانية في وجه الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية. وبالتالي فإن موضوع التسلح سيبقى مضبوطاً كماً ووظيفة بدور داخلي يريده الأميركي، وهو مواجهة ما تسميه واشنطن الإرهاب في المدى المنظور. وأكثر من ذلك على المدى الأبعد، إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وهذا موضع شك كبير.
يضاف إلى ذلك السعي الأميركي الحثيث لإبقاء الجيش تحت مظلة الرقابة والمتابعة الأميركية، والسعي إلى تكبيله باتفاقيات ولجان تشكل مدخلاً إلى إنجاز هدف كهذا، مستغلاً حاجة الجيش اللوجستية والتنظيمية والتدريبية. وهذا الكلام لا يعني ولا يجب أن يعني تشكيكاً في مناقبية الجيش الوطنية، بقدر ما يشكل دعوة إلى التنبه الى الأفخاخ الأميركية.
في مطلق الأحوال، وبالنظر إلى واقع الولايات المتحدة اليوم، فإن مجمل الحركة الأميركية في لبنان لن تكون أكثر من مجرد بيع وعود لا تغني ولا تثمن من جوع.
الانتقاد/ العدد 1305 ـ 10 تشرين الاول/ اكتوبر 2008
في أي إطار سياسي تتموضع زيارة كل من نائب وزيرة الخارجية الأميركية دايفيد هيل ونائب وزير الدفاع الأميركي إلى لبنان؟
ما هي دوافع وأهداف هذه الزيارة في هذا التوقيت بالذات؟ وهل تملك الإدارة الأميركية الحالية القدرة على ترجمة وعودها إلى مواقف وإجراءات عملية، أم أن الحركة الأميركية تجاه لبنان مجرد حركة رفع عتب؟
من نافل القول ان الاهتمام الأميركي بلبنان بلغ منذ عام 2004 مستوى غير مسبوق، لدرجة اعتبر فيها إبان عدوان تموز المشؤوم عام 2006 المدخل لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
وقد عبر هذا الاهتمام عن نفسه بسلسلة دؤوبة من المواقف والزيارات والقرارات الدولية، يبقى أبرزها القرار 1559 والقرار 1701. وكان الرئيس الأميركي على شدة مشاغله لا يكاد يمر يوم من دون أن يكيل المدح لرئيس الحكومة السنيورة، أو لفريق 14 شباط، أو أن يصدر موقفاً يذكر بالمواقف الأميركية الداعمة لاستقلال لبنان وحريته وسيادته.
وقد سجلت زيارات كثيرة لمسؤولين أميركيين إلى لبنان، إلا أن البارز فيها مؤخراً هو عدد الزيارات التي قام بها عسكريون أو سياسيون، لكن لهم وظيفتهم الأمنية، وكلها كانت تظهر اهتماماً قوياً بالمؤسسات العسكرية والأمنية، لا سيما الجيش.. وهذا الاهتمام اتخذ طابعاً مريباً في الحقيقة، لأنه كان يتزامن مع حملات داخلية للفريق الأميركي في لبنان، تدعو إلى إحداث تغيير في عقيدة الجيش، وإلى اعادة النظر في هيكليته، وحتى في وظائفه ومهامه الأمنية والعسكرية. كل ذلك إدراكاً من الولايات المتحدة أن المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الوحيدة التي نجحت إلى حد كبير في المحافظة على وحدتها وتماسكها، ونجحت في قطوع الامتحان الخاص بمواجهة تيار سلفي هو تنظيم "فتح الإسلام"، وإن بكلفة باهظة. بكلمة أخرى، لقد كان الاهتمام الأميركي بمؤسسة الجيش يندرج في سياق متكامل: الأول أن يواكب مشروع الانقلاب السياسي الذي كان يديره داخلياً فريق 14 شباط، انقلاباً موازياً ومتزامناً في مؤسسة الجيش، لذا جرت محاولات عديدة لخرقه وتشكيل ما يشبه قوى داخل صفوفه، من دون أن تصل إلى نجاحات نهائية. وأما الثاني فيتمثل في إلحاق الجيش بالحرب الأميركية على الإرهاب، من خلال إقحام دور وظيفي جديد فيه. وقد جرى العبور إلى هذا الدور الوظيفي الجديد من خلال معمودية دم في مخيم نهر البارد.
وإذا كان الانقلاب داخل الجيش، أو قلب الجيش ليصبح منسجماً أكثر مع الانقلاب السياسي لفريق 14 آذار قد فشل، فذلك لفشل الانقلاب نفسه، ولوعي قيادات الجيش، وللحصانة النسبية لكن المعتد بها، التي تتصف بها مؤسسة الجيش.
واليوم تأتي الحركة الأميركية تجاه لبنان في ظل معطيات ومتغيرات جد نوعية وكبيرة، أبرزها:
أولاً: ان أميركا اليوم هي غير أميركا بالأمس، حيث تراجع دورها العالمي والإقليمي إلى حد كبير. وفي أقل الاحتمالات فإن هذا الدور هو في مرحلة مراجعة وإعادة نظر، وبالتالي في مرحلة انتظار قسرية لما بعد الانتخابات الأميركية الرئاسية القادمة.
ثانياً: مهما كان مستوى الاهتمام الأميركي بالجيش، فهو لا يمكن إلا أن يأخذ بالاعتبار جملة وقائع صلبة: الأولى موقف الكيان الإسرائيلي الذي يبقى له رأيه الأول والأخير في هذا الموضوع. الثانية واقع الجيش نفسه، فواشنطن لن تسلح جيشاً لا تضمن ولاءه بالكامل لها. والثالثة الواقع السياسي المحيط، ما يعني الخشية من أن يقع هذا السلاح في النهاية بيد خصومها.
إلا أن هذا لا يلغي دوراً خطيراً يمكن أن تقوم به واشنطن متوسلة اليه بعض الاتفاقيات الملزمة التي قد تتيح تدخلاً أميركياً بذرائع لوجستية أو إدارية أو برامج تدريب وتسلح.. إلخ، وهذا ما يحتاج إلى وقفة خاصة.
ثالثاً: زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الأخيرة إلى واشنطن ولقاؤه الرئيس الاميركي بوش، حيث قيل ان واحدة من النقاط التي أثيرت كانت مسألة تسليح الجيش.
رابعاً: واقع فريق 14 آذار الذي يعاني اليوم من تصدعات عميقة، ومن واقع نفسي ومعنوي صعب، جراء الضربة التي تعرض لها في أيار، وجراء رسم قياداته الطارئة مسافات فاصلة وعميقة عنه، وجراء ما يراه من ضعف أميركي وتعويم للعلاقات الأوروبية السورية والأميركية السورية.
خامساً: الوضع القوي لسوريا اليوم، وكذلك لإيران، معطوفاً على الوضع القوي للمعارضة أيضاً.
كل ما تقدم يقودنا إلى استخلاص الدوافع والأهداف التالية لزيارة هيل ومن معه إلى لبنان:
ـ إن الزيارة تندرج في سياق الاهتمام الطبيعي للولايات المتحدة بلبنان من منطلقين: الأول فريقها العامل داخلياً، أي فريق 14 آذار، والثاني الجيش والمؤسسات الأمنية.
ـ بالنسبة الى فريقها، فثمة هدف أميركي قوامه إشعار هذا الفريق بأن واشنطن ما زالت متمسكة به، وبأنها ما زالت داعمة له، وأن لا شيء سيتغير في سياستها إزاء لبنان وسوريا تحديداً.. وكل ذلك لطمأنة هذا الفريق ومنحه جرعة معنوية، عسى أن تساعده على الثبات حتى مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية.
ـ بالنسبة الى الجيش، تبدو الأمور أكثر حساسية وخطورة، لأنه لا أحد يتصور ـ مجرد تصور ـ أن الولايات المتحدة ستسلح الجيش بما يقدره على الدفاع عن السيادة اللبنانية في وجه الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية. وبالتالي فإن موضوع التسلح سيبقى مضبوطاً كماً ووظيفة بدور داخلي يريده الأميركي، وهو مواجهة ما تسميه واشنطن الإرهاب في المدى المنظور. وأكثر من ذلك على المدى الأبعد، إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وهذا موضع شك كبير.
يضاف إلى ذلك السعي الأميركي الحثيث لإبقاء الجيش تحت مظلة الرقابة والمتابعة الأميركية، والسعي إلى تكبيله باتفاقيات ولجان تشكل مدخلاً إلى إنجاز هدف كهذا، مستغلاً حاجة الجيش اللوجستية والتنظيمية والتدريبية. وهذا الكلام لا يعني ولا يجب أن يعني تشكيكاً في مناقبية الجيش الوطنية، بقدر ما يشكل دعوة إلى التنبه الى الأفخاخ الأميركية.
في مطلق الأحوال، وبالنظر إلى واقع الولايات المتحدة اليوم، فإن مجمل الحركة الأميركية في لبنان لن تكون أكثر من مجرد بيع وعود لا تغني ولا تثمن من جوع.
الانتقاد/ العدد 1305 ـ 10 تشرين الاول/ اكتوبر 2008