ارشيف من :أخبار عالمية

خاص "الانتقاد.نت": جدار واحد يسقط ... لتشمخ جدران لا تحصى !

خاص "الانتقاد.نت": جدار واحد يسقط ... لتشمخ جدران لا تحصى !
عقيل الشيخ حسين

احتفل في العاصمة الألمانية برلين زعماء نحو ثلاثين دولة، يحيط بهم أكثر من مئة ألف مشارك، بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1989. وكان النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية قد أقام هذا الجدار لمنع التسلل إلى ألمانيا الغربية، أو كما يقول الغربيون، لمنع الهرب من ديكتاتورية الشيوعية إلى الحرية.

ذكرى يحتفل بها كل عام، لكن ضخامة الاحتفال في هذا العام فاقت ما كانت عليه في الأعوام السابقة. غناء ورقص وألعاب وموسيقى وفرح طاغ. كان ذلك مبرراً نوعاً ما يوم سقوط الجدار وسيادة الاعتقاد بنهاية التاريخ تحت رفرفة أعلام الديموقراطية فوق عالم موحد بقيادة الولايات المتحدة على أنقاض خصمها السوفياتي. لكنه بدا مبالغاً فيه هذا العام نظراً للون الباهت الذي بات يلف الاعتقادات القديمة في زمن تطفو فيه على السطح هزائم الأطلسي وأزمة الرأسمالية وغيرها من الأزمات التي تضرب عالم اليوم.
لكن يبدو أن الأحلام تظل جميلة وسط كوابيس النوم وكوابيس اليقظة. إصرار على ا
لفرح، وإصرار على توهم الانتصار. وبين هذا وذاك، استثمارات شتى. منها حرص الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، مثلاً، على الكتابة في موقعه الالكتروني بأنه ساهم في إسقاط جدار برلين، طمعاً برفع شعبيته المنهارة حالياً في استطلاعات الرأي؛ وحرص خصومه وحساده على التشكيك في وجوده في برلين يوم سقو الجدار. ومنها حرص الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي شغله عن السفر إلى برلين انهماكه بالتفاوض مع نتنياهو، على الحضور عبر الفيديو على شاشة عملاقة، ليبدي عظيم اندهاشه بـ "التغيير" (شعار حملته الانتخابية) الذي جعل أنغيلا ميركل القادمة من ألمانيا الشرقية تتبوأ أعلى منصب في ألمانيا الغربية، والذي حعله هو شخصياً، الأسود ذا الأصل الإفريقي القريب، يصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. ومنها بناء جدار بالشوكولا من تسعة أمتار من قبل شركة مختصة وجدت في المناسبة فرصة ثمينة للدعاية والربح. أو قيام شركة أخرى بـ "إصدار حذاء" يرمز إلى المناسبة للغرض نفسه. وهذا يضاف إلى سيول الاستثمارات الأخرى : قطع من الجدار تباع للأفراد والمؤسسات والمتاحف، وكلام عن الجدار طغى على وسائل الإعلام في أربع أقطار المعمورة.

سقوط الجدار كان إيذاناً مفترضاً بانفتاح العالم على العالم مع انطلاق عصر العولمة، لكن الفرح بسقوط الجدار، بما هو رمز لانفتاح البشر على بعضهم البعض يتحول إلى مهزلة وإلى تعبير صارخ عن النفاق المفضوح. لندع جانباً الحدود والمعابر والأسلاك الشائكة والمكهربة التي تفصل اليوم بين الدول -حتى المتقاربة منها سياسياً وثقافياً وإيديولوجياً-. ولنلاحظ أن أكثر من خمسة عشر جداراً هائلاً، كلها أكبر بما لا يقاس من جدار برلين، قد بنيت في العالم في فترة ما بعد انهيار جدار برلين.

جدار تبنيه الولايات المتحدة بينها وبين المكسيك بطول 3360 كم، بهدف منع أرباب العمل الأميركية من استجلاب اليد العاملة الرخيصة الثمن. ونية ببناء جدار أكثر طولاً بكثير بين الولايات المتحدة وكندا. جداران بطول 3000 و3300 كم تبنيهما الهند بينها وبين باكستان وبنغلادش على التوالي. وباكستان تبني جداراً بينها وبين أفغانستان بطول 2400 كم. والإمارات العربية المتحدة تبني جداراً بينها وبين سلطنة عمان، والكويت بينها وبين العراق. أما الجدران التي توصف بأنها تحفة التحف، لجهة رقيها من الناحية التقنية فهي تلك التي شرعت السعودية ببنائها أولاً بينها وبين اليمن، ثم بينها وبين العراق، بتكلفة تصل إلى ثمانية مليارات دولار ونصف المليار. وجدار الفصل العنصري الذي يبنيه الإحتلال الإسرائيلي في فلب الضفة الغربية، والجدار الآخر الذي يعتزم الاحتلاتل بناءه على الحدود مع مصر... وأوروبا التي تفاخر بأنها الوحيدة التي لا جدران فيها تدرس جدياً فكرة بناء جدران بينها وبين أوكرانيا وبيلوروسيا وتركيا.

من هذه الجدران ما يبنى لمنع تسلل الإرهابيين. ومنها ما يبني لمنع تدفق المهاجرين. ومنها ما يبنى لا لحاجة غير حاجة المقاولين الدوليين والمحليين إلى المقاولة ... والبطش بالأموال العامة، بالتواطؤ مع القيمين على الأموال العامة. وكلها تشهد على أن علاقة الإنسان بالإنسان باتت في هذا العالم المأزوم أمراً غير مرغوب فيه.

صحيح أن جدار برلين قد سقط، لكنه فتح الباب واسعاً أمام سباق محموم في مجال بناء الجدران. هل يعني ذلك أن البشر يمتلكون غرائز شبيهة بتلك التي تمتلكها بعض الأنواع الحيوانية والتي تشتم بفضلها، وعن بعد، قرب حدوث الكوارث ؟ فرضية ممكنة تعززها وقائع ليس أقلها أن عالم القطبية الثنائية والحرب الباردة الذي انتهى مع سقوط جدار برلين، قد بدأ يوغل، بدلاً من الازدهار والرفاه والسلام، في المزيد والمزيد من الويلات التي تصاحب الاحتضار السريع للعالم الذي بدا له للحظة، يوم سقوط الجدار، أنه أصبح سيد العالم بلا منازع.

بناء الجدران، وبعيداً عن الإدعاءات الإنسانوية لحضارة الديموقراطية، دليل ساطع على تفشي الإحساس، بدل الأخوة والمشاركة واحترام الآخر، بأن "الآخر هو الجحيم حقاً". إنه العودة السافرة إلى ما قبل البدائية المرذولة، يوم كان الإنسان"ذئباً لأخيه الإنسان". وكل هذا وسط هذا العجاج من الكلام عن نشر الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والمحبة، والتسامح، والانفتاح ! وكل ذلك غيض من فيض الوثن الديموقراطي الذي يرقص حوله الراقصون، ويبتهج به المبتهجون.
2009-11-11