ارشيف من :آراء وتحليلات
أبعاد تبادل السفارات بين لبنان وسوريا: هل يرعوي الفريق المغامر ويتعظ من الدرس؟

كتب ابراهيم صالح
كان مشهداً استثنائياً وتاريخياً في مقاييس ومعايير البعض، مشهد وزيري خارجية كل من لبنان وسوريا وهما يوقعان الوثائق اللازمة لتبادل السفارات بين البلدين.
فالخطوة الجديدة هي بلا ريب، تطوي أوراق حقبة، وتفتح الأبواب أمام حقبة أخرى، ولم يعد جديداً أن الحقبة المطوية للتو، هي حقبة الذين "تاجروا" طوال عقود، وبالتحديد منذ الانشاء الكياني السوري واللبناني، بعنوان الأطماع السورية "بلبنان".
فالمعلوم أن كثيراً من القوى والشخصيات أمضت "زهرة" عمرها، وما من شغل شاغل لديها إلا استثارة المخاوف من "رغبة" سورية "مكتومة" بإعادة ضم لبنان إليها وإنهاء هذا الكيان اللبناني الذي ولد ولادة متعثرة وسط انقسام عمودي بين أهله حول مستقبله وهويته السياسية.
وعلى قاعدة هذا التخويف اندلعت في الداخل اللبناني "حروب" و"فتن" ونهضت "فلسفات" ومنظومة أفكار ورؤى جعلت من مطلقيها "حراس الضيعة ونواطير الكيان" وأدخلت نفسها في التاريخ على هذا الأساس.
وعلى القاعدة نفسها كانت مراحل التوتر في العلاقة بين البلدين التي كانت تنتهي إما بالقطيعة كما حصل إبان حكومة خالد العظم في سوريا عام 1951، وإما بالتوتر الشديد كما حصلت في مطالع عقد السبعينات، وكما تجلى أخيراً وبالتحديد منذ أن أمسكت "قوى 14 شباط" بمقاليد الحكم في لبنان في غفلة من الزمن، وجولة الشعار العريض والأساسي لتماسكها ولوجودها محاصرة دمشق بشتى الاتهامات، والعمل على تحطيم كل أشكال العلاقة المميزة التي كانت سابقاً، وقطع الطريق أمام أي امكانية لإرساء العلاقة بين البلدين على أسس جديدة تتماهى مع تاريخية العلاقة بين البلدين والشعبين، وعمق هذه العلاقة الضاربة مكانياً وزمانياً.
وبناءً على حدث اقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا من المفترض أن ينتهي والى الأبد مبرر وجود بعض الشخصيات والقوى التي ما وجدت من هموم لبنان وقضايا البلاد سوى التخويف الوهمي من أطماع سوريا ورغبتها بإعادة بسط حضورها ونفوذها على الساحة اللبنانية.
في التحليل السياسي الموضوعي والمجرد ثمة أربع رؤى سبقت إقامة العلاقات الديبلوماسية بين بيروت ودمشق.
الرؤية الأولى تقول بأن دمشق نجحت عبر المسالك الدبلوماسية والى حد بعيد في اعادة بسط ظلها على الساحة اللبنانية.
الرؤية الثانية وهي بالطبع تتماهى مع منطق الشباطيين ومع خطابهم السياسي، وتزعم بأن "اعتراف سوريا بنهائية الكيان اللبناني ما كان ليحصل لولا أمران، الأول تأثيرات "ثورة الأرز"، والثاني ضغوط العالم على سوريا، ورغبة دمشق في الظهور بمظهر المغير لسلوكياته تجاه لبنان وحيال العالم كله.
الرؤية الثالثة وأصحابها فريقان، الأول يرى أن الحدث برمته لا قيمة عملية كبرى له حاضراً ومستقبلاً، لأن اشكالية العلاقة بين لبنان وسوريا لا يمكن أنه تحل بسفارتين، وبالتالي سيأتي حين من الدهر، تعود فيه عجلة الأمور القهقرى لنشهد فصولاً أخرى من التوتر يطرأ على علاقات البلدين، والثاني يتعاطى بإيجابية أكبر عندما يقول بأن عمق العلاقة بين الشعبين المتداخلين هو أبعد من تبادل التمثيل الدبلوماسي على غرار ما يحصل بين الدول المستقلة.
الرؤية الرابعة تنهض على قراءة فحواها أن ما حدث ما كان يمكن أن يجري على نحو ما جرى فيه وبلغة أخيراً، لولا "التعديل" الذي طرأ على موازين القوى في لبنان بعد أيار الماضي الذي وضع حداً لحقبة، وفرض على ساحة الواقع واقعاً سياسياً جديداً تمثل بأمور عدة منها انتخاب رئيس للجمهورية لا يكن العداء لسوريا، وحصول المعارضة على الثلث الضامن في حكومة وحدة وطنية، وتنسيق أمني سوري فتح الطريق بشكل عملي أمام مواجهة "الإرهاب" الوافد إلى الشمال اللبناني، والذي شرع عملياً بمهاجمة المؤسسة العسكرية واستهداف عناصرها على النحو الإجرامي المعروف، إضافة إلى معطيات جديدة من الساحة اللبنانية، جعلت كلها السلطات السورية في وضع المطمئن كل الاطمئنان إلى أمرين، الأول أن لبنان لن يتحول مجدداً إلى الخاصرة الرخوة التي تجعله ساحة "تآمر" عليها، والثاني أن القوى الحليفة لسوريا في لبنان صارت بوضع يسمح لها بالتأثير على ادارة الأمور في لبنان على نحو لا يثير حفيظة دمشق ولا يبعث عندها الريبة والخشية.
ومهما يكن من أمر كل هذه الرؤى التي يتم تداولها في الوسط السياسي فإن الثابت أن الخطوة الجديدة فتحت الستار أمام واقع جديد في لبنان بات معه على كل الذين اعتاشوا تاريخياً على شعار "الاطماع" السورية بلبنان، واولئك الذين "اكتشفوا" في الأعوام الثلاثة الماضية أن لبنان أولاً، وفرحوا بهذا الاكتشاف كما فرح العالم الكبير أينشتاين عندما قادته أبحاثه الطويلة إلى اكتشاف قوانين نظرية النسبية التي غيرت مسار العالم كله.
ان المشكلة الأساسية كانت وما زالت في مكان آخر تماماً. وعليهم أن يدركوا زيفاً أن كل محاولاتهم لتغيير هوية لبنان السياسية وإحداث قطع مع تاريخه ومحيطه ليس الا عبثاً ومضيعة للوقت، وتبديداً لمناخات اعادة وضع البلاد على طريق التماسك الوطني والاستقرار والتطور.
فالتجربة البعيدة والقريبة على حد سواء أظهرت أنه في كل مرة حاول بعض الواهمين إحداث تغيير لهوية لبنان ولحقيقته ينعكس ذلك على شكل "مغامرة" ترتد تداعياتها على الوضع اللبناني فتضعه على شفا جرف من الانفجار، وتدخله في وضع اللااستقرار، وتعيق نموه وتطوره السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ما من عاقل إلا ويعي أنه بعد حدث اقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا سيكون على اللبنانيين العودة إلى مواجهة قضاياهم الجوهرية والأساسية، ولعل أولى هذه القضايا الأكثر الحاحاً الآن:
1 ـ قضية مواجهة الإرهاب المتحفز والكامن والذي يحمل معه مخاطر حقيقية على لبنان حاضراً ومستقبلاً ومهما حاول البعض حرف الأنظار.
2 ـ تبريد الأجواء الداخلية عبر التخلي عن سياسة افتعال الفتن وإثارة الغرائز والامتناع عن النظر إلى لبنان كساحة لتصفية الحسابات أو التعويض عن خسائر منوا بها في أماكن أخرى.
3 ـ الدخول في حوار وطني جدي لإقرار الاستراتيجية الدفاعية الوطنية، ومن أول عناوينها الحفاظ على المقاومة وسلاحها، والكف عن الرهانات المدمرة والمهلكة حول امكان محاصرة هذه المقاومة تمهيداً لإنهاء دورها.
4 - اعطاء المجال والفرصة للعبة سياسية ديموقراطية تسمح للبنانيين بالتوجه إلى صناديق الاقتراع في الربيع المقبل بهدوء، للمساهمة في إعادة انشاء السلطة في البلاد.
5 ـ الكف عن التذرع بـ"الخطر السوري" الموهوم لاستجداء الدعم الخارجي واستدراج تدخل الدول وولوجها إلى الساحة الداخلية اللبنانية، لأن نتائج هذه السياسة الجهنمية التي أتقنها وبرع بها الفريق الشباطي طوال الأعوام الثلاثة الماضية كانت كارثية على لبنان، وعلى هذا الفريق نفسه الذي وقع في حالة إرباك ولم يخرج منها بعد.
وعموماً فإن تبادل السفارات بين لبنان وسوريا هو بمثابة فرصة كبرى لفريق من اللبنانيين أضاع في السابق البوصلة ووضع الحليف والصديق مكان العدو، فهل يتعظ هؤلاء من الدرس القاسي ويعودون إلى رشدهم؟
الانتقاد/ العدد1307 ـ 17 تشرين الأول/ اكتوبر 2008
كان مشهداً استثنائياً وتاريخياً في مقاييس ومعايير البعض، مشهد وزيري خارجية كل من لبنان وسوريا وهما يوقعان الوثائق اللازمة لتبادل السفارات بين البلدين.
فالخطوة الجديدة هي بلا ريب، تطوي أوراق حقبة، وتفتح الأبواب أمام حقبة أخرى، ولم يعد جديداً أن الحقبة المطوية للتو، هي حقبة الذين "تاجروا" طوال عقود، وبالتحديد منذ الانشاء الكياني السوري واللبناني، بعنوان الأطماع السورية "بلبنان".
فالمعلوم أن كثيراً من القوى والشخصيات أمضت "زهرة" عمرها، وما من شغل شاغل لديها إلا استثارة المخاوف من "رغبة" سورية "مكتومة" بإعادة ضم لبنان إليها وإنهاء هذا الكيان اللبناني الذي ولد ولادة متعثرة وسط انقسام عمودي بين أهله حول مستقبله وهويته السياسية.
وعلى قاعدة هذا التخويف اندلعت في الداخل اللبناني "حروب" و"فتن" ونهضت "فلسفات" ومنظومة أفكار ورؤى جعلت من مطلقيها "حراس الضيعة ونواطير الكيان" وأدخلت نفسها في التاريخ على هذا الأساس.
وعلى القاعدة نفسها كانت مراحل التوتر في العلاقة بين البلدين التي كانت تنتهي إما بالقطيعة كما حصل إبان حكومة خالد العظم في سوريا عام 1951، وإما بالتوتر الشديد كما حصلت في مطالع عقد السبعينات، وكما تجلى أخيراً وبالتحديد منذ أن أمسكت "قوى 14 شباط" بمقاليد الحكم في لبنان في غفلة من الزمن، وجولة الشعار العريض والأساسي لتماسكها ولوجودها محاصرة دمشق بشتى الاتهامات، والعمل على تحطيم كل أشكال العلاقة المميزة التي كانت سابقاً، وقطع الطريق أمام أي امكانية لإرساء العلاقة بين البلدين على أسس جديدة تتماهى مع تاريخية العلاقة بين البلدين والشعبين، وعمق هذه العلاقة الضاربة مكانياً وزمانياً.
وبناءً على حدث اقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا من المفترض أن ينتهي والى الأبد مبرر وجود بعض الشخصيات والقوى التي ما وجدت من هموم لبنان وقضايا البلاد سوى التخويف الوهمي من أطماع سوريا ورغبتها بإعادة بسط حضورها ونفوذها على الساحة اللبنانية.
في التحليل السياسي الموضوعي والمجرد ثمة أربع رؤى سبقت إقامة العلاقات الديبلوماسية بين بيروت ودمشق.
الرؤية الأولى تقول بأن دمشق نجحت عبر المسالك الدبلوماسية والى حد بعيد في اعادة بسط ظلها على الساحة اللبنانية.
الرؤية الثانية وهي بالطبع تتماهى مع منطق الشباطيين ومع خطابهم السياسي، وتزعم بأن "اعتراف سوريا بنهائية الكيان اللبناني ما كان ليحصل لولا أمران، الأول تأثيرات "ثورة الأرز"، والثاني ضغوط العالم على سوريا، ورغبة دمشق في الظهور بمظهر المغير لسلوكياته تجاه لبنان وحيال العالم كله.
الرؤية الثالثة وأصحابها فريقان، الأول يرى أن الحدث برمته لا قيمة عملية كبرى له حاضراً ومستقبلاً، لأن اشكالية العلاقة بين لبنان وسوريا لا يمكن أنه تحل بسفارتين، وبالتالي سيأتي حين من الدهر، تعود فيه عجلة الأمور القهقرى لنشهد فصولاً أخرى من التوتر يطرأ على علاقات البلدين، والثاني يتعاطى بإيجابية أكبر عندما يقول بأن عمق العلاقة بين الشعبين المتداخلين هو أبعد من تبادل التمثيل الدبلوماسي على غرار ما يحصل بين الدول المستقلة.
الرؤية الرابعة تنهض على قراءة فحواها أن ما حدث ما كان يمكن أن يجري على نحو ما جرى فيه وبلغة أخيراً، لولا "التعديل" الذي طرأ على موازين القوى في لبنان بعد أيار الماضي الذي وضع حداً لحقبة، وفرض على ساحة الواقع واقعاً سياسياً جديداً تمثل بأمور عدة منها انتخاب رئيس للجمهورية لا يكن العداء لسوريا، وحصول المعارضة على الثلث الضامن في حكومة وحدة وطنية، وتنسيق أمني سوري فتح الطريق بشكل عملي أمام مواجهة "الإرهاب" الوافد إلى الشمال اللبناني، والذي شرع عملياً بمهاجمة المؤسسة العسكرية واستهداف عناصرها على النحو الإجرامي المعروف، إضافة إلى معطيات جديدة من الساحة اللبنانية، جعلت كلها السلطات السورية في وضع المطمئن كل الاطمئنان إلى أمرين، الأول أن لبنان لن يتحول مجدداً إلى الخاصرة الرخوة التي تجعله ساحة "تآمر" عليها، والثاني أن القوى الحليفة لسوريا في لبنان صارت بوضع يسمح لها بالتأثير على ادارة الأمور في لبنان على نحو لا يثير حفيظة دمشق ولا يبعث عندها الريبة والخشية.
ومهما يكن من أمر كل هذه الرؤى التي يتم تداولها في الوسط السياسي فإن الثابت أن الخطوة الجديدة فتحت الستار أمام واقع جديد في لبنان بات معه على كل الذين اعتاشوا تاريخياً على شعار "الاطماع" السورية بلبنان، واولئك الذين "اكتشفوا" في الأعوام الثلاثة الماضية أن لبنان أولاً، وفرحوا بهذا الاكتشاف كما فرح العالم الكبير أينشتاين عندما قادته أبحاثه الطويلة إلى اكتشاف قوانين نظرية النسبية التي غيرت مسار العالم كله.
ان المشكلة الأساسية كانت وما زالت في مكان آخر تماماً. وعليهم أن يدركوا زيفاً أن كل محاولاتهم لتغيير هوية لبنان السياسية وإحداث قطع مع تاريخه ومحيطه ليس الا عبثاً ومضيعة للوقت، وتبديداً لمناخات اعادة وضع البلاد على طريق التماسك الوطني والاستقرار والتطور.
فالتجربة البعيدة والقريبة على حد سواء أظهرت أنه في كل مرة حاول بعض الواهمين إحداث تغيير لهوية لبنان ولحقيقته ينعكس ذلك على شكل "مغامرة" ترتد تداعياتها على الوضع اللبناني فتضعه على شفا جرف من الانفجار، وتدخله في وضع اللااستقرار، وتعيق نموه وتطوره السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ما من عاقل إلا ويعي أنه بعد حدث اقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا سيكون على اللبنانيين العودة إلى مواجهة قضاياهم الجوهرية والأساسية، ولعل أولى هذه القضايا الأكثر الحاحاً الآن:
1 ـ قضية مواجهة الإرهاب المتحفز والكامن والذي يحمل معه مخاطر حقيقية على لبنان حاضراً ومستقبلاً ومهما حاول البعض حرف الأنظار.
2 ـ تبريد الأجواء الداخلية عبر التخلي عن سياسة افتعال الفتن وإثارة الغرائز والامتناع عن النظر إلى لبنان كساحة لتصفية الحسابات أو التعويض عن خسائر منوا بها في أماكن أخرى.
3 ـ الدخول في حوار وطني جدي لإقرار الاستراتيجية الدفاعية الوطنية، ومن أول عناوينها الحفاظ على المقاومة وسلاحها، والكف عن الرهانات المدمرة والمهلكة حول امكان محاصرة هذه المقاومة تمهيداً لإنهاء دورها.
4 - اعطاء المجال والفرصة للعبة سياسية ديموقراطية تسمح للبنانيين بالتوجه إلى صناديق الاقتراع في الربيع المقبل بهدوء، للمساهمة في إعادة انشاء السلطة في البلاد.
5 ـ الكف عن التذرع بـ"الخطر السوري" الموهوم لاستجداء الدعم الخارجي واستدراج تدخل الدول وولوجها إلى الساحة الداخلية اللبنانية، لأن نتائج هذه السياسة الجهنمية التي أتقنها وبرع بها الفريق الشباطي طوال الأعوام الثلاثة الماضية كانت كارثية على لبنان، وعلى هذا الفريق نفسه الذي وقع في حالة إرباك ولم يخرج منها بعد.
وعموماً فإن تبادل السفارات بين لبنان وسوريا هو بمثابة فرصة كبرى لفريق من اللبنانيين أضاع في السابق البوصلة ووضع الحليف والصديق مكان العدو، فهل يتعظ هؤلاء من الدرس القاسي ويعودون إلى رشدهم؟
الانتقاد/ العدد1307 ـ 17 تشرين الأول/ اكتوبر 2008