ارشيف من :أخبار عالمية
خاص الانتقاد.نت: سويسرا ومنع بناء المآذن ... من المسؤول؟
عقيل الشيخ حسين
في الخامس من أيلول/ سبتمبر من العام 2007، طرح على برلمان كانتون بيرن السويسري أول مشروع يطالب بمنع بناء المآذن في الكانتون المذكور. لكن المشروع مني بفشل ذريع في التصويت. وبعد عشرة أشهر على ذلك، أي في الثامن من تموز / يوليو من العام 2008، طرحت مبادرة تهدف إلى إدخال فقرة في الدستور السويسري تقضي بمنع بناء مآذن جديدة (هنالك أربع مآذن و400 ألف مسلم في سويسرا). وبعد شهر ونصف على ذلك، أي في السابع والعشرين من آب /أغسطس من العام 2008، اعتبر المجلس الفيدرالي السويسري أن الطلب مشروع لانسجامه مع القواعد الملزمة في الدستور، لكنه يشكل مساً بعدد من حقوق الإنسان التي يضمنها القانون الدولي كحرية العبادة ومنع التمييز. وبناءً على ذلك، اقترح المجلس الفيدرالي على البرلمان الفيدرالي طرح المبادرة، من دون إرفاقها بمشروع مضاد، على الاستفتاء الشعبي، لكنه أرفق موافقته بطلب بعدم التصويت لمصلحتها.
هنالك، من جهة، عملية آخذة بالنشوء والتطور من شأنها أن تستدعي انتباه السلطات واتخاذها ما تراه مناسباً من إجراءات تتناسب مع مصالح البلد وسمعته.
ومن جهة أخرى، هنالك قواعد ملزمة في الدستور السويسري تخالف قواعد ملزمة في القانون الدولي وفي العديد من الاتفاقات الأوروبية والدولية الموقع عليها من قبل سويسرا. وهنالك موافقة على الاستفتاء، و"تدخل" رسمي من خلال التوصية بالتصويت ضد المبادرة. نعم ولا، ولا ونعم! عمل غير نظيف بقفازات نظيفة!
وفوق ذلك، هنالك عملية خداع "ذكية" استهدفت الشعب السويسري: قبل الاستفتاء الشعبي بيومين، جلجلت في سماء سويسرا نتائج استطلاع للرأي أجراه التلفزيون والراديو السويسريان وجاءت نتيجته كالتالي: 53 بالمئة من السويسريين ضد إجراء الاستفتاء، وبالتالي ضد منع بناء المآذن. و34 بالمئة مع منع بناء المآذن. وكان من الطبيعي لهذا الاستطلاع الذي أخطأ بشكل فاحش في إظهار حقيقة الوضع بعد يومين، أن يشيع الانطباع بأن الشعب السويسري لن يسمح لمطلب منع بناء المآذن بالمرور. وهذا يعطي صورة عن أشكال التلاعب بالرأي العام التي تضطلع بها وسائل الإعلام، من خلال الاستطلاعات وبث ما هب ودب من آراء ومعلومات. وكل ذلك تحت سمع وبصر السلطات الرسمية.
ثم كان أن صوت 59 بالمئة من الشعب السويسري ضد بناء المآذن، برغم التوصيات الرسمية بعدم التصويت، وبرغم الاعتماد الرسمي على ما سمي في التصريحات بـ "حكمة الشعب" السويسري.
رسميون وإعلاميون وأناس عاديون كثيرون في الغرب أنحوا باللائمة على السلطات السويسرية وعلى النخب السياسية واتهموها بالممالأة أو بالتقصير، على الأقل لجهة إخلاء الساحة، واللاحراك، أمام حملات البروباغندا التي نظمتها الشخصيات والأحزاب اليمينية والتي تميزت بالتحريض الواسع النطاق ضد الإسلام والمسلمين، وهو التحريض الذي آتى أكله لأن حكمة الشعب السويسري لم تنزل بما يكفي إلى الميدان.
وقد كان الغالب في المواقف استهجان ما حدث، وخصوصاً أنه حدث في سويسرا المفترض بها أن تكون بلداً محايداً، وخصوصاً، بين الأكثر تمسكاً بالقيم الكبرى. مع ميل للتركيز، في تصريحات العديد من الجهات الإسلامية على براءة الحكومة السويسرية وإدانة الأحزاب اليمينية، وبالطبع على قيم الحوار والتعاون البناء.
اليمين الفائز في التصويت أكد بأنه يحترم الإسلام. ولكنه ضد تعبيراته السياسية، وصولاً إلى التطرف والإرهاب. والحكومة السويسرية عزفت، بلسان العديد من مسؤوليها، على الوتر نفسه عندما بررت نتيجة التصويت بخوف الناس من الإسلام المتطرف والإرهابي، وبضرورة أخذ هذا الخوف بعين الاعتبار.
وهنا بالطبع، دخلت المسألة في نفق التمييع. لأن المسلمين أنفسهم ضد التطرف والإرهاب. وكثيرون منهم ضد تدخل الدين في السياسة. إذاً القواسم المشتركة كثيرة وواسعة، ومسلمون كثيرون بإمكانهم أن يبنوا على الإخراج السويسري للمشكلة وأن يقولوا "واحنا ما لنا" طالما أن المشكلة مشكلة إسلام متطرف وإرهابي، وطالما أن غالبية المسلمين الذين يعيشون في سويسرا هم من أصول تركية وبلقانية.
وفي المشكلة حيز للطرافة: متكلمون غربيون انبروا للتقعر في عمق المشكلة من باب الفقه ليقولوا بأن المآذن ليس منصوصاً عنها في النصوص المقدسة، وليقولوا إن منع بنائها يدخل في مجال التصدي للبدع. ولأن الأمر لا يمس في النهاية غير المتدينين، على أساس وجود مسلمين غير ملتزمين بالشعائر. لا لوم عليهم لأن عندنا من يقول بذلك وبأكثر منه.
ولو فهمنا أن من المبرر التصدي للإسلام المتطرف والإرهابي، فكيف نفهم أن يتم هذا التصدي من خلال منع المآذن والحجاب والاستهزاء بخراف الأضحى والكلام "الرسمي" عن الروائح الكريهة، وصولاً إلى تدنيس المقابر وقتل المسلمين المسالمين، رجالاً ونساءً، في الأماكن العامة في بلدان الغرب. وكيف نفهم حشود الإساءات إلى رموز الإسلام الكبرى وصولاً إلى النبي الأكرم (ص) والقرآن الكريم، بما في هذه الأخيرة من تمعقل بعضنا للدعوات الداعية حتى إلى شطب الكثير من آياته.
ما حدث في سويسرا هو امتداد لما حدث في غير سويسرا. وما حدث في سويسرا بدأ سريعاً بالامتداد إلى خارج سويسرا حيث ظهرت الدعوات إلى إجراء استفتاءات لمنع المآذن في هولندا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وألمانيا وغيرها. وكل ذلك هو، في نهاية المطاف، تعبير بأشكال أخرى، عن الحروب التي تجري بأشكال أخرى في بلدان كالعراق وأفغانستان وفلسطين. والأكيد أن الجرأة على المس بالمآذن مشتقة من الجرأة على المس بالمسجد الأقصى. تحت سمع وبصر الحريصين جداً على الإسلام.
ملاحظة: اشترى العالم الإسلامي في العام 2008 ما قيمته 15 مليار دولار من المنتجات السويسرية. أكثرها مآكل ومجوهرات وألبسة فاخرة. وفي العام 2008 أيضاً حجز السياح الخليجيون وحدهم 174500 غرفة وجناح في الفنادق السويسرية في مدينة جنيف وحدها. وأحد الزعماء اليمينيين السويسريين قلل من احتمال لجوء المسلمين إلى مقاطعة سويسرا بسبب الجودة والجاذبية التي تتمتع بهما المنتجات والخدمات السويسرية.
صحف أوروبية كثيرة وصفت الاستفتاء السويسري بأنه وصمة عار. وقد أشرنا في الملاحظة أعلاه، من باب ضرورات النقد الذاتي، إلى وصمة العار الملصقة على جبيننا الخاص.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018