ارشيف من :آراء وتحليلات

فاصلة: تحديد مصير لبنان ومسيحيي المشرق

فاصلة: تحديد مصير لبنان ومسيحيي المشرق
كتب ليلى نقولا الرحباني
منذ ان اقر قانون الانتخابات في المجلس النيابي ارتفعت حرارة المعركة الانتخابية، وبدا ان التسابق على المقاعد والخلاف حولها سيخلق ارباكاً وتطاحناً غير مسبوق في صفوف الموالين، الذين بدأوا يرسمون الخطوط الحمر بوجه حلفائهم، فيحدد أحدهم الحد الأعلى للمقاعد التي يمكن ان يتخلى لهم عنها في اقضيته، والتي لا تزيد عن مقعد واحد او اثنين، والبعض الآخر يريد ارسال حلفائه ليتسكعوا في بلاد الله الواسعة، وفي بعض الاقضية "يتناتش" المقعد الواحد خمسة او ستة حلفاء من الموالين.
وبغضّ النظر عن حماوة المعركة التي بدأت من الآن، فالجميع متفق مع ما قالته السفيرة الاميركية في لبنان ميشيل سيسون أمس من ان "انتخابات الربيع المقبلة فرصة جيدة ليعبّر الشعب اللبناني عن نفسه". ولهذا يبدو ان الاميركيين وغيرهم من القوى الاقليمية الفاعلة، يتحضرون للانتخابات المقبلة منذ الآن، فبدأت تظهر بوادر الافساد والرشى وشراء الضمائر في بعض القرى والبلدات اللبنانية، وذلك في توزيع الاعانات الغذائية وفي "فلش الزفت" ومساعدة مزارعي البطاطا وغيرها من الأمور التي تحاول التحايل على القانون الذي حدد سقف الانفاق الانتخابي، وتحاول كسب أكبر قدر ممكن من الاصوات الانتخابية، وذلك لعلم الجميع ان نتيجة الانتخابات المقبلة ستغير وجهة السياسة الخارجية للبنان وتحدد خياراته الاستراتيجية، وستكون محطة مفصلية في تاريخ لبنان والمنطقة ككل.
من المفيد التذكير بأن الازمة السياسية في لبنان المستمرة منذ ثلاثة اعوام، لم تكن ازمة طائفية ولا مذهبية، ولم تكن يوماً بسبب مقعد هنا او حصص في حكومة هناك، بل ان الازمة كانت بين نهجين ومسارين ومشروعين:
ـ مشروع يريد ان يلحق لبنان بسياسات غربية ومشاريع ترسم للمنطقة بدون دراسة خطر هذه المشاريع على لبنان والتعددية فيه، لا بل حتى بدون ادراك ان مشروع الشرق الاوسط الكبير ـ الذي ارادوا السير به ـ كان يمكن ان يؤدي الى تفتيت وضياع لبنان بشكل كامل. ومن سخرية الاقدار، ان مصير لبنان لم يشكل قلقاً للسائرين في المشروع طالما هم على كراسيّهم، ولكن، ألم يدركوا أن نجاح المشروع ما كان ليبقي كراسي يُجلس عليها؟
ـ اما المشروع الاخر، فهو مشروع التفاهم، ورفض التبعية والانسياق وراء المشاريع التقسيمية، وتكريس حق لبنان في الدفاع عن ارضه ووحدته وبقائه، وتكريس نهج المقاومة بكل اشكالها التي تدافع عن الوطن السيد المستقل وتحفظ له سيادته وكرامته.
 وبضعف المشروع الاول وسيره نحو الانهيار، بتنا نشاهد "ارباب الثورة" وقادتها يلتفّون للعودة الى حضن الوطن، ويمدون جسور التلاقي والمصالحات والمصارحات مع اهل المشروع الثاني.
وهكذا، من الطبيعي والمنطقي ان تأتي الانتخابات المقبلة كمحطة مفصلية لتكريس انهيار المشروع التقسيمي والتهديمي للوطن، وخاصة ان "ادارته العظمى" على قاب قوسين او أدنى من الهزيمة في الديار، فماذا يُتوقع ان يكون مصير المشروع في العالم؟.
اما بالنسبة للمسيحيين اللبنانيين، فان الانتخابات أيضاً ستكون مفصلية بالنسبة لهم، وانعكاساً بالتالي على مسيحيي المشرق، فلدى المسيحيين في الانتخابات المقبلة خياران لا ثالث لهما: اما التجذر في ارضهم والانفتاح على المحيط، او الهجرة.
سيكون المسيحيون اللبنانيون امام محطة تاريخية فاصلة في حياتهم ودورهم في النظام، فبعد ان أقرّ القانون الانتخابي الذي يتيح لهم ايصال ممثليهم الى الندوة البرلمانية، لم يعد امامهم من مبرر ولا أي عذر للانكفاء. لقد حددوا خياراتهم في انتخابات 2005، لكنهم لم يستطيعوا ايصال نوابهم بشكل كامل الى البرلمان بسبب فساد القانون الانتخابي وانحرافه. لكنهم اليوم وبعد مرور ما يزيد على ثلاث سنوات على الخيار السابق، لمسوا لمس اليد صوابية خيارهم في 2005، بعد ان شاهدوا ـ بأم العين ـ كيف فرّط ارباب المشروع الأول وقادته الاقليميون والدوليون، بالمسيحيين في لبنان والعراق وفلسطين، وهجروهم، واستأصلوهم من ارضهم وبيوتهم. واليوم بات مسيحيو المشرق يعتمدون على المسيحيين اللبنانيين ـ بما لهم من بقايا نفوذ في لبنان ـ لتأمين الملاذ السياسي والعمق الاستراتيجي الذي يحفظ وجودهم وإمكانية بقائهم في أرضهم.
لقد مارست الثقافة المسيحية المشرقية على مدى تاريخها تأثيراً متبادلاً بين الثقافتين الإسلامية والغربية، برغم الظروف القاسية التي تعرضت لها بسبب هذا الدور ووقوعها فريسة بين مطرقة الغرب المتآمر على وجودها، وسندان النظرة المريبة التي ينظر بها بعض المسلمين في الشرق الى المسيحيين. لهذا فان خسارة المسيحيين لدورهم ووجودهم وهجرتهم، ستشكل خسارة للشرق بأكمله وللمسلمين فيه وللحضارات المشرقية الاصيلة، فالمسيحيون العرب بما لهم من انفتاح حضاري وصداقة مع الغرب، وبما لهم من جذور وروابط حضارية أصيلة مع المسلمين في الشرق، يشكلون جسر عبور بين الثقافات المختلفة والحضارات المتباعدة. وهذا ما يمكن ان يخسره المسيحيون اللبنانيون ويخسره مسيحيو المشرق فيما لو انهزم مشروع التفاهم والتلاقي والوحدة والحوار بين الفئات المكونة للشعب اللبناني، ومنها امتداداً الى شعوب المنطقة ككل.
اذاً، المعركة الانتخابية القادمة ستكون مصيرية وحاسمة لكثير من الخيارات الداخلية والاقليمية، ستكون حاسمة لمصير المسيحيين بشكل خاص ولجميع اللبنانيين بشكل عام، فإما ان يتخذ اللبنانيون قرار السير بالتجديد لأكثرية أذاقت اللبنانيين الامرّين خلال السنوات الثلاث المنصرمة، وادخلتهم في أتون صراعات لا تهدأ، وأفقرتهم وجوعتهم، وقدمتهم ذبائح لتحقيق مشروع الشرق الاوسط الكبير كما اعلنت كوندوليزا رايس خلال العدوان على لبنان.. وإما ان يتعظ اللبنانيون من تجربة السنوات الثلاث الماضية فيبدلوا الاكثرية النيابية الحالية بأكثرية تعبر حقيقة عن خيار لبنان المستقل السيد غير التابع، لبنان دولة الحق والعدالة التي تكون ذات مكانة محترمة في النظام الإقليمي بحيث لا تقع في فلك أحد المحاور الإقليمية والدولية المتناحرة في المنطقة. 
على اللبنانيين تحديد خياراتهم الاستراتيجية في صناديق الاقتراع، فإما ان يسيروا بخيار لبنان الضعيف الذي يكون مكسر عصا للاطراف الاقليميين والدوليين، ويعود جائزة ترضية على موائد المصالح الدولية، وإما ان يختاروا لبنان القوي الذي هزم "اسرائيل"، والذي بإمكانه استغلال مكامن القوة لديه ليطور نظاماً دفاعياً متماسكاً رادعاً وفعالاً، يسمح له بتكريس سياسة الانفتاح والصداقة مع جميع الدول الصديقة والداعمة للبنان، ويؤمن له عدم التبعية والانصياع لمصالح الدول الخارجية.
الانتقاد/ العدد 1708 ـ 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2008
2008-10-21