ارشيف من :آراء وتحليلات

مفارقات مناقشة البيان الوزاري دلالات جديرة بالتأمل

مفارقات مناقشة البيان الوزاري دلالات جديرة بالتأمل
مصطفى الحاج علي
ارتدت حكومة الحريري الأولى قماشتها الدستورية الكاملة بعيد نيلها ثقة غير مسبوقة، وبعد استعراض كرنفالي على خلفية مناقشة بيانها الوزاري استحضرت مواقف وسجالات جديرة بالوقوف عندها لما حملته من دلالات وأبعاد، ولما كشفته من مرامٍ وأهداف.
السمة الأولى والأساسية للمواقف هي المفارقة بكل ما في الكلمة من معنى، وهي مفارقة لا يمكن عزلها عن المسار العام الذي رافق عملية تشكيل الحكومة وصياغة بيانها الوزاري، حيث كان ثمة اصرار متعمد على تصعيب الوصول الى الحلول ـ وبالتالي ـ حرق الكثير من وقت الناس وأعصابهم، قبل الانصياع في النهاية الى منطق حقائق الأمور والتوازنات السياسية التي تحكمها مجتمعة، لا لشيء ـ وكما بدا مؤخراً ـ إلا للقول إننا لم نعط بسهولة وإنما بعد مقاومة وأخذ ورد، في محاولة لادعاء القوة الفارغة، والانتفاخ بغير عافية.
تفترض طبائع الأمور في السياسة خصوصاً في ما يتعلق بعملية تشكيل الحكومات في لبنان أحد أمرين لا ثالث لهما: إما الدخول والمشاركة على قاعدة الالتزام المتبادل، وإما الخروج على قاعدة رفض ما جرى التوافق عليه، والانتقال بالتالي الى موقع المعارضة من الخارج، لكن الذي حدث أنه وبعد التوافق على البيان الوزاري انتفض مسيحيو الرابع عشر من آذار ـ وفي الحقيقة ما تبقى منهم ـ الى جانب بعض نواب تيار المستقبل، أي نواب الكتلة العضوية المحسوبة على رئيس الحكومة، على هذا البيان، وتحديداً على نقطة أساسية فيه هي البند السادس المتعلق بمنح لبنان شعباً وجيشاً ومقاومة حق التصدي للكيان الاسرائيلي، والمفارقة هنا في الحقيقة مركبة:
ـ موافقة على البيان ثم اعلان التحفظ الملامس لحدود الرفض لأحد بنوده، في مخالفة واضحة لمقتضيات الأمور التي تقول بأن الموقف من البيان الوزاري لا يقبل التبعيض، فإما أن تقبله كله وإما أن ترفضه كله.
ـ الاعتراض لم يأت فحسب عن يمين رئيس الحكومة، وإنما من قلب فريقه أيضاً، وهنا الأمر أخطر لأنه سيعني ضمناً أن رئيس الحكومة نفسه لا يرضى بكامل البيان الوزاري، فكيف يقبل عندها برئاسة حكومة، والتعهد بممارسة سياسة عامة لا يرتضيها، إذ إن مقتضى المنطق هنا أيضاً أن لا يستمر في تحمل المسؤولية. في مطلق الأحوال، إن هذه المواقف ـ المفارقة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام لجملة من الاعتبارات أبرزها:
أولاً: إن المعترضين لا يستهدفون في الحقيقة الحكومة كحكومة حتى لا تصيبهم سهامهم ابتداءً وإنما هم يريدون:
أ ـ إدامة الانقسام حول سلاح المقاومة للقول إن البيان الوزاري لم يضع حداً نهائياً له، وبالتالي لعدم إراحة المقاومة في جبهتها الداخلية، بل ابقائها موضوعة تحت ضغط هذا الانقسام من جهة، ولتوجيه رسائل لمن يهمه الأمر داخلياً وخارجياً بأن هذه هي حقيقة مواقفهم، وبأنهم يستطيعون الاستمرار في الرهان عليهم من جهة أخرى.
ب ـ ابقاء سلاح المقاومة في موقع ربط النزاع لتسهيل فتح ملفه عند أي مفترق طرق، أو متغير يسمح بذلك.
ج ـ لتبرئة أنفسهم أمام جمهورهم لجهة التأكيد على حقيقة مواقفهم، وأن ما قاموا به مجرد مناورة، أو خضوع ظرفي.
ثانياً: التصدعات والتشققات الكبيرة التي أصابت فريق الرابع عشر من آذار، وسقوط كل شعاراته، الأمر الذي يملي على ما تبقى من هذا الفريق البحث عن عدو مشترك يكفل له الحفاظ على شيء من التماسك، فهذا الفريق أو ما تبقى منه، لم يعد لديه ما يقدم به أوراق اعتماده أمام الخارج، وحتى أمام جمهوره الخاص، سوى ورقة المقاومة وسلاحها.
ثالثاً: ان هؤلاء المعترضين، ومن حيث أرادوا الاساءة الى مقام المقاومة، فهم في الحقيقة أساؤوا الى أنفسهم، وذلك في سياق تبرير تهافت وتناقض مواقفهم، الموافقة تحت ضغط السلاح، وكأنهم يريدون القول إنهم وافقوا صاغرين، فهل هذا موقف جدير بمن يدعي أنه صاحب قضايا وطنية كبرى، تصوير أن لا مشكلة لديهم إلا مع حزب الله، وإن كل أسباب فشلهم مردها الى حزب الله، وهكذا يصبح حزب الله هو القوة العظمى في لبنان التي لا حول لهم ولا قوة إزاءها.
رابعاً: الحاجة النفسية لهؤلاء لاصطناع معارك وهمية ليتوازنوا سياسياً ونفسياً، وحتى لا يتخلى عنهم مؤيدوهم، كما حاجتهم الى حرب مصطنعة تبرر لهم مواقعهم وأدوارهم.
خامساً: الخشية هنا، من أن يكون هؤلاء ما زالوا يراهنون على حدوث أمرٍ ما، وربما حرب اسرائيلية جديدة، ولذا يصرون على ابقاء ملف المقاومة مفتوحاً، وتحويل تحفظهم الى عبوة تنتظر اللحظة المناسبة للتفجير.
وفي مطلق الأحوال، لقد قال المجلس النيابي كلمته في البيان الوزاري كلاً، وقافلة الحكومة انطلقت، ولن يبقى خلفها إلا الكلاب العاوية.
2009-12-16