ارشيف من :آراء وتحليلات
الحريري في دمشق: الدلالات والأبعاد

مصطفى الحاج علي
الحريري في دمشق، الحدث ليس مفاجئاً لأن تمهيدات كثيرة سبقته، وبالرغم من هذا كله بقي للحدث وقعه الخاص الذي يحتاج الى نوعٍ من الأخذ والرد لتصدقه، فالعبور على أربع سنوات من العلاقات التي بلغت درجة عالية من العدائية والكيدية، وبنت جدراناً سميكة من الكراهية والشكوك والظنون والاتهامات السياسية القاسية، ليس بالأمر السهل، لا على الزائر، ولا على المُزار، ولا على جمهور الأول، ولا على شعب الثاني، فثمة أوصافٍ ونعوت استخدمت بلغت من الإسفاف المغرق في الإهانة المعنوية خصوصاً من فريق الحريري لسوريا رئيساً ودولة وشعباً.
من هنا، احتاجت الزيارة الى تمهيدات، وكان عليها أن تعبر من خلال الطريق الواسع الذي دشن تطبيع العلاقات السعودية ـ السورية وتحديداً منذ قمة الكويت في عام 2008 إلا أن ما جعل الزيارة ممكنة ـ من الناحية السياسية البحتة ـ هو مسار التطورات الذي ارتسم في المنطقة، وفي لبنان منذ العدوان الاسرائيلي عام 2006 على لبنان، ومروراً بأحداث أيار للعام 2008، هذه التطورات التي أعادت رسم التوازنات في المنطقة ولبنان، مشكّلة الأرضية الصلبة لتبدل القناعات والعودة الى وقائع الأمور وحقائقها الصلبة، هذه الحقائق التي أنتجت انتخاب رئيس توافقي للجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وأعادت رسم المشهد السياسي الداخلي وفق خريطة اصطفافات بالغة الدلالة. من هنا، فإن الزيارة هي تتويج لمسار طبيعي للتصحيح الذي أصاب مسار الأمور في لبنان تحديداً.
ولأن الزيارة دقيقة وحساسة لكونها مثقلة بكل ما تقدم، فإن كل جزء منها يصبح له دلالته ومعناه الخاص، ويحتاج الى فحص مجهري في سياق البحث عن الخلفيات المخفية، أو الأهداف المرجوة.
في هذا الإطار، يمكن التوقف عند التالي:
أولاً: من الطبيعي أن لا تكون ملامح الحريري وهو يطأ أرض دمشق غير مريحة، فليس بالأمر السهل أن يترك وراءه سنوات طوالا مثقلة بكل ما هو سلبي، وأن يرسم مسافة بينه وبين نفسه باتجاه قناعات مغايرة يعرف تماماً صوابيتها، ثم أن الحريري يدرك تماماً صراحة موقفه ليس بالنسبة لنفسه فقط، وإنما بالنسبة الى فريقه وجمهوره الذي وبالرغم من كل التمهيدات وجد نفسه أمام نقلة نوعية، وقطيعة مع مرحلة ليس من السهل عليه التكيف معها، وهذه مهمة صعبة ستواجه الحريري لاحقاً.
ثانياً: من الطبيعي ان يحيط الرئيس الأسد الحريري بهذا الاحتفاء الحار، فحجم الجليد المتراكم بين الاثنين، لا يمكن اذابته إلا بحرارة عالية، كما أن توتر الحريري يحتاج الى احتضان حميمي لامتصاصه.
ثالثاً: لا شك، أن الزيارة طوت صفحة كبيرة من العلاقات المأزومة بين تيار رئيسي في لبنان ودمشق ما خلال هوامش معروفة، وبذلك، فإن صفحة جديدة ستدشن لمصلحة البلدين.
رابعاً: لا يمكن التقليل من المكاسب السياسية للطرفين من الزيارة فكل منهما يحتاجها في هذا الظرف، وفي هذا التوقيت بالذات: الحريري يحتاجها من موقعه كزعيم طائفي وسياسي، ومن موقعه كرئيس للحكومة يحرص على أن تقلع حكومته بسلاسة ونجاح، فعلاقة ايجابية مع دمشق تكمل بنسج العباءة السياسية الاقليمية اللازمة لنجاح الحريري، كما أن دمشق يهمها أن تكون شبكة علاقتها مع غالبية اللبنانيين جيدة، لا سيما مع ما يمثل الحريري في بيئته السياسية والمذهبية، وأن تظهر انها على مسافة واحدة في جميع اللبنانيين، وأنها حريصة على كل لبنان، وان علاقتها مع لبنان بكل أطيافه هي استجابة لمنطق التاريخ ومستلزمات الجغرافيا، وخصوصاً أن هذه العلاقات تخضع اليوم لمعايير جديدة بعيدة عن الحضور الثقيل المباشر للوجود السوري السابق في لبنان.
خامساً: لا معنى للجهد الذي بذله بعض حلفاء الحريري لايجاد مبررات لا تمت بصلة الى حقيقة الزيارة وأبعادها. نعم، من المفهوم، أو يمكن فهم هذه المحاولات في سياق احتواء انعكاسات الزيارة على الجمهور الخاص بهؤلاء، وأما ما عدا ذلك يصبح حرتقة على الزيارة، ومحاولات للتقليل من أهميتها.
في السياق عينه، لا تفيد محاولات مسيحيي الرابع عشر من آذار الهادفة الى التشكيك بالزيارة، وتحميلها من الآن ما يفوق استطاعتها للتخفيف من دينامية أبعادها ونتائجها، وللإمساك بمفاعيلها الخاصة، وهنا، حسناً فعل النائب جنبلاط باعتباره الزيارة طواً لصفحة سوداء من العلاقات بين جزء من لبنان وسوريا، بما يعني ذلك فتح الطريق واسعاً أمام صفحة بيضاء من هذه العلاقات.
سادساً: النقاش الذي دار داخل حلفاء الحريري حول شكل الزيارة لجهة ضرورة ان تضم وفداً رسمياً هو نقاش خارج منطق الزيارة وسياقها وظروفها، لأن أصل هذه الزيارة محوره الحريري نفسه، ولذا كان طبيعياً، وهي زيارة أولى بعد خصام عنيد، أن يغلب عليها الطابع الشخصي أو العائلي، وخصوصاً أن الحريري قام بها بعد لقاء ضمه وعائلة الحريري الأب، وبمبادرة من الملك عبد الله، في الرياض.
سابعاً: ان محاولات تحميل عقد الحريري لمؤتمره الصحفي في السفارة اللبنانية دلالات أكبر مما يحتمل، لأنه هو المكان الطبيعي، وخصوصاً أن الحريري والأسد لم يعقدا مؤتمراً مشتركاً، كما أن الحريري كان ضيفاً على الأسد في قصر الشعب.
ثامناً: لا شك، أن زيارة الحريري الى دمشق أزالت حاجزاً نفسياً وسياسياً كبيراً أمام فتح العلاقات واسعاً بين الكثيرمن اللبنانيين الذين كانوا يرون حرجاً في القيام بها مراعاة لمشاعر الرئيس الحريري.
تاسعاً: حتى لا تتصور تداعيات دراماتيكية للزيارة، وتحميلها نتائج أكبر من طبيعتها، وخصوصاً أنها خطوة في مسار، فلا أحد عليه أن يتوقع أن تحمل حلولاً نهائية لكل الملفات العالقة بين البلدين، بل هي فتحت الباب لمعالجات هادئة لها، وبعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية، وهذا هو المهم.
عاشراً: في المحصلة النهائية فإن الجميع مستفيد من هذه الزيارة، وعلى الجميع الحرص على استكمالها في سياق ما يؤكد ضرورة سيادة منطق التوافق والتفاهم والشراكة والعلاقات الأخوية بين مجمل الأطراف اللبنانية، والشقيقة سوريا.