ارشيف من :آراء وتحليلات
سياسة التنازلات لا تليق بمصر "أم الدنيا"

لؤي حسن (*)
يطرح أكثر من تساؤل. وأكثر من علامة تعجب أمام هذه الحماسة غير المسبوقة من النظام المصري في مشاركته لاسرائيل بمحاصرة قطاع غزة. والذي بلغ الآن مرحلة متقدمة مع الجدار الحديدي الجاري إنشاؤه عند الجانب المصري من الحدود. جدار يضرب عميقاً في الأرض ليقطع طريق الأنفاق، شريان الحياة الوحيد الذي يمد أهل القطاع المحاصرين ببعض ما يتيسر من مؤن أو دواءٍ بالحد الأدنى.
يبدو هذا الأمر تنكراً للقيم بمقاييس العروبة أو الإسلام. فكلاهما يحتمان نصرة أبناء الأمة بالحق. فكيف أولئك الذين "أخرجوا من ديارهم بغير حق" فبات قطاع غزة لهم الملجأ الوحيد منذ عام النكبة 1948.
ويبدو الأمر نوعاً من الخيانة إذا كان البديل عن العجز في ردِّ ما ضاع من حقوقٍ لهؤلاء. أو دعمٍ لمقاومتهم على الأقل، هو اعطاء اسرائيل كل الفرص لكي تقهر بآلتها الحربية إرادتهم وهم يقارعونها باللحم الحي. أو تمكينها من كسر شوكة صمودهم وهم يواجهون حصارها ببطون فارغة ولكن بإرادة زاخرةً بالإباء.
كما يبدو الأمـر نوعاً من الغباء إذا عرضناه علـى المقاييس الاستراتيجيـة – هذا إن جاز فصله عما سبق -. فأي مصلحة لمصر في أن تكون إلى جانبها (إسرائيل) مستقرة قوية. بينما هذه الأخيرة كانت وما زالت وستبقى تضع مصر في بؤرة أهدافها الاستراتيجية. بوصفها الدولة العربية الأكبر. فمثلاً ما زال الجيش المصري هو العدو الأساس في كل الفرضيات التي يضعها القادة الإسرائيليون عن سيناريوهات الاشتباك المحتملة على مستوى ( الجيوش التقليدية) ويجري التدرب عليها وتدريبها في المعاهد العسكرية.
ليس مفصولاً عن تلك الرؤية الإسرائيلية الأصابع (الأمركوصهيونية) وهي تجد من محاصرة مصر بطوقٍ من الأزمات.. حركات انفصالية غرب السودان – (دارفور) – وشرقه – قبائل البيجا – وجنوبه حيث منابع النيل. وكذلك في أثيوبيا التي كان لإسرائيل دور في تدهور علاقاتها مع مصر. فيما لم تعد خفية أقنية التواصل بين تل أبيب وحركات الانفصال الأمازيغية في المغرب والجزائر.
ويبدو أيضاً هذا الحصار المصري للقطاع مخالفاً لأبسط شروط الاعتدال حتى لا نقول الحيادية، تلك التي يفترضها دور الوسيط المقنع والمقبول. والذي تسعى مصر للعبه في إطار" المصالحة بين فتح وحماس". فعندما تكون مصر في نفس الكفة مع إسرائيل، فهذا لا يفقدها مصداقيتها وحسب كوسيط، وإنما يجعلها شريكة لهذه الأخيرة. حتى أنها باتت على ما يبدو تتقاسم معها ردود الفعل الفلسطينية، بعدما تعرضت المعدات المصرية وهي تجدُّ في بناء – ( الحائط السد) إلى إطلاق للنار من داخل القطاع لإرغامها على التوقف!!.
المفارقة أن (السد العالي) الذي حجز من خلفه (بحيرة ناصر) لري الصحراء استقر في الذاكرة العربية رمزاً للكرامة التي تأبى الخضوع وتأنف الضيم وتتحدى غطرسة الكبار. في ما يبدو (السد الحديدي) المذكور الذي يحتجز وراءه قوت الفلسطينيين وبعض أسباب صمودهم يبدو عنواناً للتواطؤ والاستتباع. وكل مظاهر غياب الإرادة، ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث منذ أيام الخديوي توفيق، فيما تتألق مرحلة الملك فاروق حيالها بالرغم من فضيحة الأسلحة الفاسدة!!.
لعل التفسير الوحيد لهذا المشهد السياسي هو أن السياسة المصرية باتت مشددةً لعنوان مركزي: "توريث السلطة" للسيد جمال مبارك. وفي هذا السبيل يبدو النظام مستعداًَ لتقديم المزيد والمزيد من التنازلات اعتقاداً بأنها تعطيه وثيقة حسن سلوك حيال أمريكا، وتستدر شفاعة إسرائيل. ما يوفر أسباب الصعود (لولي العهد) الميمون!!!.
"صاحب الحاجة أرعن". هذا القول هو أشد ما ينطبق على مجمل ما سبق ذكره. ولعل مكمن الرعونة ليس في التوريث، بل تصور مروره، وتقبله من الشارع. ففي بلد مثل مصر بالتحديد لا بد لحاكمها أن يستمد شرعية من منهلٍ ما.
استمدها عبد الناصر من كونه قائداً لثورة 23 يوليو/ تموز بكل ما حملته من إنجازات وتحولات. فضلاً عن انتصاره السياسي في معركة تأميم قناة السويس 56. واستمدها السادات من كونه (شريكاً) لعبد الناصر. ثم تصدره للواجهة السياسة لمعركة العبور 73 بوصفه "صاحب القرار السياسي".
أما الرئيس مبارك فإنه لم يستمد شرعيته بوصفه رئيساً للحزب الوطني. حيث السلطة في مصر غير مبنية دستورياً على أساس (الحزب الحاكم). وإذا كان له من شرعية يستمد منها أسباب وجوده فهو أنه كان واحداً من القادة العسكريين الذين حققوا انجاز العبور في حرب أكتوبر / تشرين، كما ان مصدر قوته داخلياً هو من مبايعة الجيش له بوصفه واحداً من رجال الصف الأول فيه.
فأين جمال مبارك من كل هذا؟!.. وماذا سيرث – هذا إذا تمكن – سوى تراكمات هائلة من الأزمات الاقتصادية المزمنة ومعها ملايين الفقراء الذين يعيشون على الكفاف. غير الملايين الأخرى من العاطلين من العمل!.
ومن سيكون حول مبارك الابن من عصب سياسي يشد أزره حيال ما سبق وغيره إلا شلل المتنفعين المنافقين المحيطين به وبوالده. وهؤلاء سرعان ما سينفكون من حوله عند أول امتحان.
أما الأمريكيون فمن المعروف عنهم أنهم لا يحملون من لا يستطيع أن يتكفل بنفسه. فكيف ممن يمكن أن يشكل عبئاً عليهم!. وتاريخهم يشهد على ذلك وكان آخره في لبنان!!.
ربما سيناور الأمريكيون في موضوع التوريث فيطمئنون النظام لينتزعوا منه ما يمكن انتزاعه هذا من جهة. ثم يصبح هذا الموضوع من جهة أخرى أداةً للضغط على قوى مصرية مؤهلة أكثر بغية استدراجها إلى الموقع السياسي المطلوب لها أمريكياً مقابل تسهيل وصولها إلى السلطة!!.
إن الحكمة تقتضي بان يعود الرئيس حسني مبارك إلى روحه الأولى. إلى روح الجندية التي خاض بها حرب الاستنزاف 68 – 69. ثم ملحمة العبور 73. وعندها قد يتلمس المخرج. وهو أدرى به. مخرجاً يليق بمصر. وشعبها العريق. ودورها التاريخي الذي طبعها باسم "أم الدنـيـا"!.
(*) كاتـب مـن لبنان