ارشيف من :آراء وتحليلات
عام على حرب غزة... مآزق اسرائيلية بالجملة:

ليلى نقولا الرحباني
عام مرّ على العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، وعلى عملية أراد منها الاسرائيليون بحسب تصريحاتهم، القضاء على المقاومة في غزة، وأهمها القضاء على حماس.
بحسب الخبراء العسكريين، تعد حرب غزة "نكسة" للجيش الاسرائيلي، فقد كشفت الوهن الذي أصابه والذي لم يستطع تفاديه بعد حرب تموز 2006، بالرغم من ملاحظات "فينوغراد" ونصائحه في كيفية استعادة الهيبة والردع. لقد كان لما حصل في غزة من عدم قدرة الاسرائيليين على تحقيق انتصار ساحق على مقاومة لا تملك العمق الاستراتيجي الذي يملكه حزب الله في لبنان، ولا المقومات العسكرية نفسها، تداعيات على الجيش الاسرائيلي الذي أثبت عجزه عن حسم أي معركة يخوضها بعدما كان "الجيش الذي لا يقهر" والذي انتصر على دول عربية مجتمعة واحتل أجزاءً من أراضيها في ستة أيام.
لقد اثبتت الحرب التي خاضها الاسرائيليون على لبنان عام 2006 وبعدها الابادة التي مارسوها في غزة، نظرية "عجز القوة"، بل لعلها أعطت الدليل القاطع على أن قرار الحرب لم يعد بأيدي الاسرائيليين منفردين، بل صار ملك منظومة توازن عسكري استراتيجي في المنطقة، بحسب هؤلاء الخبراء.
وبغضّ النظر عن الادعاء الاسرائيلي بالانتصار، لن ندخل في السجال الذي دار فيما اذا كانت اسرائيل انتصرت بالفعل بما أن الصواريخ توقفت، أو انها لم تنتصر بمجرد أنها لم تحقق أهدافها من العدوان وبمجرد قدرة المقاومة في القطاع على الصمود الاسطوري في ظل ميزان عسكري غير متوازن وفي ظل فقدان العمق الاستراتيجي.
لكن، لو سلمنا جدلاً بأن اسرائيل حققت في هذه العملية ما قد يُعد نجاحًا، كما ادّعت، فمن الضروري معرفة كيف تمّ استثمار هذا النجاح، وما هي تداعيات حرب غزة على الكيان بشكل عام، لنحدد مدى الانتصار المحقق من خلال مراجعة ما جرى خلال السنة المنصرمة كنتيجة للحرب. معايير عدة يمكن الاستناد اليها للحكم على مدى انتصار قوة ما أو خسارتها، منها قدرتها على استثمار النجاح المحقق في حال تحققه، فماذا حققت اسرائيل وكيف تمّ استثمار ما أسمته انتصارًا في غزة؟
أولاً: انهيار صورة اسرائيل الدولية وإدانة العالم لها:
لم يكن تقرير غولدستون حول الحرب في غزة هو التقرير الأول أو الوحيد الذي أدان اسرائيل واتهمها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، بل يمكن اضافته الى مجموعة من التقارير الدولية التي صدرت وأدانت جميعها الجرائم الاسرائيلية وأحرجت اسرائيل وداعميها في العالم.
لقد وجّه مجلس حقوق الانسان إدانات واضحة لاسرائيل لما قامت به في غزة، وصدر تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ريشارد فولك، الذي اعتبر فيه ان ما قامت به اسرائيل هو "نوع جديد من الجرائم ضد الإنسانية"، وأقرّ فيه بـ "حق الشعوب التي تتعرض للاحتلال بحقها في المقاومة". ثم تلته تقارير لجنة الامم المتحدة التي قامت بالتحقيق في قصف اسرائيل لمنشآتها، وقد خلصت التقارير إلى "أن الجيش الاسرائيلي تعمّد استهداف المؤسسات والموظفين العاملين في وكالة تشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في حربه على غزة"... هذا غيض من فيض التقارير الدولية التي أدانت اسرائيل ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تقرير لجنة جون دوغارد، وتقارير هيومن رايتس واتش، وتقارير منظمة العفو الدولية وغيرها.
ومن المفيد التذكير بما حصل مع تسيبي ليفني وتراجعها عن زيارة بريطانيا بسبب خوفها من الاعتقال بتهمة ضلوعها في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.
ثانيًا: تصاعد الحركات اليهودية المناوئة للظلم الاسرائيلي
شهد هذا العام تحوّلاً دراماتيكياً في مواقف اليهود من إسرائيل، ففي أميركا واوروبا وأماكن شتى من العالم صُدِم عدد كبير من اليهود الليبراليين بحرب غزة التي استخدمت فيها إسرائيل قوة ساحقة ضد مدنيين عزّل في معظمهم وغير قادرين على الهرب، ما أدى الى تبدل جوهري تجلى في سياسة كسر الصمت المفروض عليهم.
وبحسب تقارير يهودية عدة، ومنها ما نشرته مجلة "ذي نايشن الاميركية" فإن حرب غزة كانت "الكارثة الأسوأ في العلاقات العامة في تاريخ إسرائيل". وإن النزاع في غزة ساعد على كسر المقاومة اليهودية التقليدية لانتقاد إسرائيل، فلأول مرة في جيل كامل، حصلت قطيعة بين يهود أميركيين بارزين والدولة الاسرائيلية بسبب سلوكها. أما كاتب العمود الخاص في صحيفة نيويورك تايمز "روجر كوهين" فقال إنه "يشعر بالخجل" من الممارسات الإسرائيلية. أما الحاخام "برانت روزن" فقال "طوال سنوات، كان هناك "صوت ملتبِس" في رأسي يبرّر الممارسات الإسرائيلية، لكن "عندما قرأت التقارير عن غزة، لم أعد أسمع الصوت الملتبس".
وبحسب التقرير، يشارك أكثر من سبعين حاخامًا من مختلف أنحاء البلاد، كل شهر، إلى جانب قادة من أديان مختلفة وأشخاص معنيين في صوم يستمر يوماً كاملاً "لوضع حد لصمت اليهود حول العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل في غزة".
هذا في أميركا، أما في اوروبا، فقد قامت مجموعة من اليهود البريطانيين بتظاهرة ضمت مئات الاشخاص طالبوا خلالها من غوردن براون تبني تقرير غولدستون، وعدم الصمت تجاه ما تقوم به اسرائيل من حصار وتجويع لأهالي غزة.
وفي اسرائيل، كانت المنظمات اليهودية أشجع من الأنظمة العربية، عندما فضحت التقارير المنشورة من قبل الصحافة الاسرائيلية والمنظمات غير الحكومية الاسرائيلية، وأهمها منظمة "كسر الصمت" ومنظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان/إسرائيل" وغيرها، فضحت الممارسات الاسرائيلية وقامت بإدانة أعمال الجيش الاسرائيلي واتهمته باللاأخلاقية، وأكدت ما جاءت به التقارير الدولية من أن الجيش الاسرائيلي استعمل المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية، وانه انتهك كل المعايير الانسانية والدولية.
عام مرّ على حرب غزة، لكن تتجلى المأساة فعلاً بأن مجتمع العدو المدني يحاسب حكومته ويسائلها ويتهمها بانتهاك حقوق الانسان، بينما المطلوب على الأقل سلوك عربي يحافظ على حد أدنى من الكرامة، فمن يُتَّهم بجريمة حرب لا يندفع موجهو التهمة لاعتباره شريك سلام بعد حرب لبنان 2006، ومن يكلّف لجان التحقيق لاثبات جرائم الحرب في غزة، لا يندفع الى القبلات مع مَن يفترض بأنه سُيدان في التحقيق. ليس مطلوباً من الأنظمة العربية الصوم من أجل رفع الحصار عن غزة كما يفعل اليهود، ولا امداد غزة بالمساعدات الانسانية، إنما على الاقل السماح لهؤلاء "الغرباء" بالتضامن وعدم قطع شريان الحياة عن غزة الشقيقة