ارشيف من :أخبار عالمية
قمة الفاو لمكافحة الجوع: كل شيء ما عدا الحلول!

193 بلداً أرسلت وفوداً شارك فيها أكثر من خمسين رئيس دولة إلى قمة وكالة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، التي انعقدت خلال ثلاثة أيام في العاصمة الإيطالية روما، بدعوة من الأمين العام للمنظمة الدولية، بان كي مون، بهدف تدارس المشكلة المتمثلة بالارتفاع غير العادي لأسعار المواد الغذائية، ومفاعيل ذلك على مستوى ارتفاع أعداد الجياع في عالم يشهد، وفق بعض التقارير، وفاة طفل من الجوع كل خمس ثوان، أو حتى كل ثانية، وفق تقارير أخرى.
قمة كالكثير غيرها من القمم الحاشدة التي تنعقد بين الفينة والفينة تحت شعارات مكافحة الفقر والمرض وما إلى ذلك من مشكلات، دون أن تفضي، برغم الخطط والبرامج والمصاريف الباهظة، إلى شيء غير استمرار المشكلات وتزايد حدتها.
أولاً لأن هذه القمم غالباً ما تستثمر كمنابر للتحريض السياسي وغير ذلك من غايات لا صلة لها بالموضوع المطروح. فالقمة الأخيرة مثلاً هيمنت عليها خطابات التنديد بالرئيسين الإيراني، محمود أحمدي نجاد، والزيمبابوي، روبرت موغابي، بسبب مواقفهما المناهضة للسياسات الدولية الظالمة.
وثانياً لأن هذه القمم، تهتم فعلاً بتخصيب المشكلات تحت ستار العمل على حلها، عبر تشخيصها ومعالجتها بطرق مسمومة قائمة على استغفال أصحاب المصلحة بالحلول، الجياع الحقيقيين، الذين لا يتمثلون في هذه القمم، وعبر الإملاءات التي تفرض على ممثلين وحكام معينين أساساً لإمرار المشاريع المتناقضة مع مصالح شعوبهم.
وقد لخص جان زيغلر، المقرر السابق للأمم المتحدة في موضوع الحق بالغذاء، هذا الوضع بقوله إن مقررات قمة الفاو شكلت انتصاراً للمؤسسات الكبرى التي تسيطر على 80 بالمئة من تجارة المواد الغذائية في العالم. كما اعتبر زيغلر أن القمة قد فشلت بسبب الضغوط التي مارسها الأميركيون على بان كي مون...
المهم أن القمة قد اعتمدت برنامجاً للعمل من أجل مواجهة الأزمة، وأن هذا البرنامج صممته خلية عمل عملت طيلة شهر كامل تحت إشراف رئيس صندوق النقد الدولي ورئيس البنك الدولي والعديد من رؤساء شركات الغذاء المتعددة الجنسات. أي تماماً تحت إشراف صانعي الأزمة. أما تكلفة البرنامج الذي يفترض أن يقلص عدد الجياع في العالم إلى النصف بحلول العام 2030 (إذا لم يقتلهم الجوع قبل حلول ذلك التاريخ) فتصل إلى 15 مليار دولار. مع العلم أن أسعار المواد الزراعية ستظل في مستويات عالية جداً (خط التشديد لهم) خلال العقد القادم.
وعلى الفور، فتح المجال أمام الأريحية وتركزت الأنظار على وعد تقدمت به الإدارة الأميركية ببذل مبلغ 770 مليون دولار لتوزع على المنظمات المتخصصة بمساعدة الجياع، ما سمح للرئيس بوش بأن يعلن بأن الولايات المتحدة تقود عملية مكافحة الجوع في العالم.
مبلغ غير كاف بالطبع، على ما يؤكده المعنيون. لكن ما يؤكده المعنيون هو إسهام منهم في التعمية على المشكلة. إذ لو افترضنا أن هذا المبلغ، وغيره من المبالغ الموعودة، على عدم كفايتها، تظل أفضل من لا شيء، ثم نظرنا إلى مجالات صرف هذه المبالغ، بعد احتساب حصة القائمين عليها، لوجدنا أن قسماً هاماً منها سيصرف على تلك الجمعيات التي تخدم أغراضاً سياسية تحت ستار مكافحة الجوع بأساليب غالباً ما تأخذ شكل حفنات من الأرز توزع هنا وهناك أمام عدسات المصورين. أما القسم الآخر فسيصرف كمساعدات للمزارعين بالبذور والأسمدة والخبرات. وبالمناسبة كشفت دول الكومنولث عن اعتماد شبكة كومبيوتر حول العالم لتبادل الخبرات بين المزارعين.
ولقد بات من نافل القول إن البذور والأسمدة والمبيدات والخبرات هي أحد المسببات الأساسية للمشكلة باعتراف جميع المختصين، وأن التوجهات الجديدة نحو معالجة المشكلة تعود اليوم إلى الحديث عن الزراعة التقليدية والزراعة البعلية والدورات الزراعية وغير ذلك من ممارسات أثبتت ناجعيتها عير تراكم الخبرات خلال آلاف السنين.
هذا عن الحلول. أما عن تشخيص الأسباب، فقد صبت القمة جام غضبها على التغيرات المناخية، مع الاعتراف الذي بات سائداً بأن هذه التغيرات هي نتاج لنشاط "بشري" عممته ثقافة الاستهلاك الأميركي المعولم. وعلى النمو الديموغرافي، وتزايد عدد الوجبات في بلدان كالهند والصين، وعلى ارتفاع أسعار النفط، برغم فائض مليون برميل يومياً في العرض على الطلب، وخصوصاً على الوقود الحيوي. علماً بأن الوقود الحيوي أمر مستجد يسهم بتحول 30 بالمئة من الاستثمار الزراعي نحو زراعة الحبوب المستعملة في إنتاج الميتانول المطروح كبديل عن النفط. لكن المشكلة أبعد من ذلك بكثير, لأن جذورها تمتد إلى عشرات السنين قبل ولادة الميتانول: منذ ثلاثين عاماً، كانت حصة الاستثمار الزراعي تشكل 20 بالمئة من مجموع الاستثمارات في البلدان النامية، وأكثر من 80 بالمئة في الفترة السابقة. وقد انخفضت هذه الحصة حالياً إلى أقل من 3 بالمئة، في حين انصرفت بقية الاستثمارات، عملاً بإملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين، نحو السياحة والمضاربات والخدمات وما إلى ذلك من قطاعات غير منتجة للمواد والسلع الأساسية. وهكذا يكون السبب الرئيسي لأزمة الغذاء هو الغائب الأكبر عن قمة الفاو الباحثة عن حلول لهذه الأزمة.
وإذا كانت انتفاضات الجوع قد بدأت تعصف بالكثير من بلدان آسيا وأفريقيا، فإن الحلول الحقيقية تتطلب، بدلاً من إضاعة الوقت في المطالبة بإصلاح نمط العلاقات داخل منظمة التجارة العالمية، وكف يد الصندوق والبنك الدوليين عن رسم سياسات البلدان النامية، وإدخال تعديلات جذرية على السياسات المحلية بخصوص الزراعة وغيرها من المرافق، تتطلب وعياً جديداً في أسفل السلّم: الخروج من منطق الاستهلاك والخمول إلى منطق العمل المنتج. الخروج من المدن المكتظة "المحاصرة" إلى الأرياف بهدف إعمارها وإعادة تصحيح المسارات، برغم كل ما في ذلك من صعوبات تظل أيسر من الموت بين أشداق الجوع.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد 1271ـ 10 حزيران/ يونيو 2008
قمة كالكثير غيرها من القمم الحاشدة التي تنعقد بين الفينة والفينة تحت شعارات مكافحة الفقر والمرض وما إلى ذلك من مشكلات، دون أن تفضي، برغم الخطط والبرامج والمصاريف الباهظة، إلى شيء غير استمرار المشكلات وتزايد حدتها.
أولاً لأن هذه القمم غالباً ما تستثمر كمنابر للتحريض السياسي وغير ذلك من غايات لا صلة لها بالموضوع المطروح. فالقمة الأخيرة مثلاً هيمنت عليها خطابات التنديد بالرئيسين الإيراني، محمود أحمدي نجاد، والزيمبابوي، روبرت موغابي، بسبب مواقفهما المناهضة للسياسات الدولية الظالمة.
وثانياً لأن هذه القمم، تهتم فعلاً بتخصيب المشكلات تحت ستار العمل على حلها، عبر تشخيصها ومعالجتها بطرق مسمومة قائمة على استغفال أصحاب المصلحة بالحلول، الجياع الحقيقيين، الذين لا يتمثلون في هذه القمم، وعبر الإملاءات التي تفرض على ممثلين وحكام معينين أساساً لإمرار المشاريع المتناقضة مع مصالح شعوبهم.
وقد لخص جان زيغلر، المقرر السابق للأمم المتحدة في موضوع الحق بالغذاء، هذا الوضع بقوله إن مقررات قمة الفاو شكلت انتصاراً للمؤسسات الكبرى التي تسيطر على 80 بالمئة من تجارة المواد الغذائية في العالم. كما اعتبر زيغلر أن القمة قد فشلت بسبب الضغوط التي مارسها الأميركيون على بان كي مون...
المهم أن القمة قد اعتمدت برنامجاً للعمل من أجل مواجهة الأزمة، وأن هذا البرنامج صممته خلية عمل عملت طيلة شهر كامل تحت إشراف رئيس صندوق النقد الدولي ورئيس البنك الدولي والعديد من رؤساء شركات الغذاء المتعددة الجنسات. أي تماماً تحت إشراف صانعي الأزمة. أما تكلفة البرنامج الذي يفترض أن يقلص عدد الجياع في العالم إلى النصف بحلول العام 2030 (إذا لم يقتلهم الجوع قبل حلول ذلك التاريخ) فتصل إلى 15 مليار دولار. مع العلم أن أسعار المواد الزراعية ستظل في مستويات عالية جداً (خط التشديد لهم) خلال العقد القادم.
وعلى الفور، فتح المجال أمام الأريحية وتركزت الأنظار على وعد تقدمت به الإدارة الأميركية ببذل مبلغ 770 مليون دولار لتوزع على المنظمات المتخصصة بمساعدة الجياع، ما سمح للرئيس بوش بأن يعلن بأن الولايات المتحدة تقود عملية مكافحة الجوع في العالم.
مبلغ غير كاف بالطبع، على ما يؤكده المعنيون. لكن ما يؤكده المعنيون هو إسهام منهم في التعمية على المشكلة. إذ لو افترضنا أن هذا المبلغ، وغيره من المبالغ الموعودة، على عدم كفايتها، تظل أفضل من لا شيء، ثم نظرنا إلى مجالات صرف هذه المبالغ، بعد احتساب حصة القائمين عليها، لوجدنا أن قسماً هاماً منها سيصرف على تلك الجمعيات التي تخدم أغراضاً سياسية تحت ستار مكافحة الجوع بأساليب غالباً ما تأخذ شكل حفنات من الأرز توزع هنا وهناك أمام عدسات المصورين. أما القسم الآخر فسيصرف كمساعدات للمزارعين بالبذور والأسمدة والخبرات. وبالمناسبة كشفت دول الكومنولث عن اعتماد شبكة كومبيوتر حول العالم لتبادل الخبرات بين المزارعين.
ولقد بات من نافل القول إن البذور والأسمدة والمبيدات والخبرات هي أحد المسببات الأساسية للمشكلة باعتراف جميع المختصين، وأن التوجهات الجديدة نحو معالجة المشكلة تعود اليوم إلى الحديث عن الزراعة التقليدية والزراعة البعلية والدورات الزراعية وغير ذلك من ممارسات أثبتت ناجعيتها عير تراكم الخبرات خلال آلاف السنين.
هذا عن الحلول. أما عن تشخيص الأسباب، فقد صبت القمة جام غضبها على التغيرات المناخية، مع الاعتراف الذي بات سائداً بأن هذه التغيرات هي نتاج لنشاط "بشري" عممته ثقافة الاستهلاك الأميركي المعولم. وعلى النمو الديموغرافي، وتزايد عدد الوجبات في بلدان كالهند والصين، وعلى ارتفاع أسعار النفط، برغم فائض مليون برميل يومياً في العرض على الطلب، وخصوصاً على الوقود الحيوي. علماً بأن الوقود الحيوي أمر مستجد يسهم بتحول 30 بالمئة من الاستثمار الزراعي نحو زراعة الحبوب المستعملة في إنتاج الميتانول المطروح كبديل عن النفط. لكن المشكلة أبعد من ذلك بكثير, لأن جذورها تمتد إلى عشرات السنين قبل ولادة الميتانول: منذ ثلاثين عاماً، كانت حصة الاستثمار الزراعي تشكل 20 بالمئة من مجموع الاستثمارات في البلدان النامية، وأكثر من 80 بالمئة في الفترة السابقة. وقد انخفضت هذه الحصة حالياً إلى أقل من 3 بالمئة، في حين انصرفت بقية الاستثمارات، عملاً بإملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين، نحو السياحة والمضاربات والخدمات وما إلى ذلك من قطاعات غير منتجة للمواد والسلع الأساسية. وهكذا يكون السبب الرئيسي لأزمة الغذاء هو الغائب الأكبر عن قمة الفاو الباحثة عن حلول لهذه الأزمة.
وإذا كانت انتفاضات الجوع قد بدأت تعصف بالكثير من بلدان آسيا وأفريقيا، فإن الحلول الحقيقية تتطلب، بدلاً من إضاعة الوقت في المطالبة بإصلاح نمط العلاقات داخل منظمة التجارة العالمية، وكف يد الصندوق والبنك الدوليين عن رسم سياسات البلدان النامية، وإدخال تعديلات جذرية على السياسات المحلية بخصوص الزراعة وغيرها من المرافق، تتطلب وعياً جديداً في أسفل السلّم: الخروج من منطق الاستهلاك والخمول إلى منطق العمل المنتج. الخروج من المدن المكتظة "المحاصرة" إلى الأرياف بهدف إعمارها وإعادة تصحيح المسارات، برغم كل ما في ذلك من صعوبات تظل أيسر من الموت بين أشداق الجوع.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد 1271ـ 10 حزيران/ يونيو 2008