ارشيف من :أخبار عالمية
تركيا والحجاب: تغيير الدستور للخروج من الحلقة المفرغة

عراقيل وتسويفات من كل نوع تحيط بمسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكن تركيا تفوز بسهولة في المسابقة السنوية للأغنية الأوروبية.
والأغنية لم تعد، كما هو معروف عملاً فنياً يسمع بل صارت، في ظل السمعي والبصري وتحول جسد المرأة إلى عنصر حاسم من عناصر الترويج، عملاً فنياً يشاهد أيضاً.
من هنا يمكن أن نخمن بسهولة سبب الفوز التركي: تعرٍّ ومزج للعريق من الألحان الشرقية بالمستحدث الغربي... ما يعكس إشارة واضحة إلى هوية تركيا كما ينبغي لها أن تكون، وفق ما تريده أوروبا والأوساط التركية المتأوربة. مع التنويه بمركزية دور اللباس في تحديد تلك الهوية.
ومن هنا نفهم السر في الجدل المستعر والمتجدد حول قضية حجاب المرأة في تركيا، وهو الجدل الجديد الذي ورث الجدل القديم حول الطربوش والبرنيطة، والذي حسم في نهاية المطاف بنصر حاسم للرأس المكشوف عند الرجال، بعد أن خرجت البرنيطة في الغرب من حيز الاستعمال، ولم يبق في الميدان غير حجاب المرأة كرمز للهوية والانتماء. ومن هنا نفهم السر في الرفض الذي ردت به المحكمة الدستورية التركية على طلب تقدم به حزب العدالة والتنمية "الحاكم" برفع الحظر المفروض على الحجاب، في المؤسسات التعليمية، منذ أتاتورك، والذي عزز قبل سنوات بضغط من العسكر الذين حكموا تركيا الجمهورية والديموقراطية والعلمانية بقوة الانقلابات العسكرية طيلة خمسين عاماً.
أما حجة المحكمة الدستورية في رفضها لرفع الحظر فهو الضرر الذي يلحقه ذلك بالسلم الاجتماعي. بمعنى أن رفعه اليوم في مؤسسات التعليم سيفضي إلى رفعه في غيرها من المؤسسات، وما يستتبع ذلك من أسلمة البلد وعودته إلى حكم الشريعة والسلاطين، ما سيفقد تركيا وجهها العلماني والديموقراطي والجمهوري، ويدخلها في دوامة العنف الاجتماعي. والواضح ان هذا الاعتبار الذي يتمسك به علمانيو تركيا هو سليل المسلّمة الأوروبية القديمة الجديدة القائلة بأن ما عندهم هو الحق والخير والجمال والحضارة، وما عند غيرهم هو الباطل والشر والقبح والبربرية.
والواضح أيضاً أن هذا الاعتبار هو ترجمة للشعار الأتاتوركي "من أجل الشعب ورغماً عن الشعب" بكل ما فيه من تناف مع مقتضيات العلمانية والجمهورية والديموقراطية. ومن حجج المحكمة أن كل نشاط ديني لا يحق له أن يستفيد من فضاءات الديموقراطية. لكن هذه الحجج مرفوضة حتى من داخل المنطق الديموقراطي. فمنظمة هيومان رايتس ووتش التي تشكل مرجعية عالمية في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، ومن ورائها لفيف كبير من القائلين بالعلمانية والديموقراطية، انتقدت حكم المحكمة الدستورية التركية واعتبرته ضربة موجهة إلى الحرية الدينية وإلى الكثير من الحقوق المدنية الأخرى، ووصل بها الأمر إلى حد توجيه اللوم إلى رجب طيب أردوغان لتقاعسه، كرئيس لوزراء تركيا، وكزعيم للأكثرية البرلمانية، في صياغة دستور جديد، على اعتبار أن الدستور الحالي الذي تستقي منه المحكمة أحكامها الهمايونية هو دستور عفا عليه الزمن.
واللوم نفسه موجه إلى أردوغان من 65 بالمئة من النساء التركيات اللواتي يرتدين الحجاب ومن الشرائح التركية التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بتأييد شعبي كاسح وغير مسبوق.
كما أن مراقبين غربيين عديدين يعتقدون بأن موقف المحكمة الدستورية إزاء الحجاب هو تمهيد لحظر حزب العدالة والتنمية الحاكم، بموجب ما تتمتع به من صلاحيات تجيز لها حل الأحزاب السياسية، إذا ما شكل وجودها مساساً بمبادئ العلمانية والجمهورية.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن الإقدام على هذه الخطوة سيعني تعطيل البرلمان والمؤسسات وهروب الاستثمارات الأجنبية وحرمان تركيا بالتالي من مستويات النمو العالية التي حققتها في ظل حزب العدالة والتنمية، كما سيجمد التقدم المتحقق على مسار مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الخروج من المأزق يتطلب، من المنظور الديموقراطي كما يظهر من موقف هيومان رايتس ووتش وغيرها، إعادة النظر بالدستور التركي، لأنه تحول إلى كابح لمسار الديموقراطية في تركيا. والمطلب مطروح أيضاً في تركيا. فقد طالب رئيس البرلمان التركي، كوكسال توبتان، مؤخراً، بوضع دستور جديد وإنشاء مجلس للشيوخ للحد من صلاحيات المحكمة الدستورية التي تحولت إلى دولة فوق الدولة في تركيا. لكن هذا المطلب يصطدم بمعارضة العسكر والسلك القضائي، ومن ورائهما بالنخبة السياسية التي تحكم تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي، باسم العلمانية والديموقراطية، ولكن بعقلية كانت وما تزال متعارضة مع مبادئ العلمانية والديموقراطية.
وفي ظل هذا الوضع، ساءت أوضاع تركيا على جميع المستويات، ولم تتجه نحو التحسن إلا في ظل بدء الإسلاميين في الوصول إلى السلطة بالأساليب الديموقراطية، خلال العقدين الماضيين. وعلى الرغم من التأييد الذي يتمتع به الإسلاميون في الشارع وبالتالي في صناديق الاقتراع، ظل سيف الحظر الدستوري مصلتاً فوق أحزابهم التي جرى حلها أكثر من مرة لتعود إلى الحكم تحت أسماء أخرى، كان آخرها اسم حزب العدالة والتنمية الحالي.
وأغلب الظن أن المسرحية ستعيد ذاتها مجدداً نحو عودة الحزب إلى الحكم تحت اسم جديد للاصطدام مجدداً بالصخرة الدستورية عينها. لكن الدوران في هذه الحلقة المفرغة لا يمكن، بنظر المراقبين الغربيين، أن يستمر إلى الأبد. إما دستور جديد في ظل إسلاميين ليبراليين، وإما توجه أكيد نحو إسلام أصولي. ومن هنا، يستغرب هؤلاء المراقبون تقاعس الإدارة الأميركية عن دعم حزب العدالة والتنمية.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1271 ـ 10 حزيران/ يونيو 2008
والأغنية لم تعد، كما هو معروف عملاً فنياً يسمع بل صارت، في ظل السمعي والبصري وتحول جسد المرأة إلى عنصر حاسم من عناصر الترويج، عملاً فنياً يشاهد أيضاً.
من هنا يمكن أن نخمن بسهولة سبب الفوز التركي: تعرٍّ ومزج للعريق من الألحان الشرقية بالمستحدث الغربي... ما يعكس إشارة واضحة إلى هوية تركيا كما ينبغي لها أن تكون، وفق ما تريده أوروبا والأوساط التركية المتأوربة. مع التنويه بمركزية دور اللباس في تحديد تلك الهوية.
ومن هنا نفهم السر في الجدل المستعر والمتجدد حول قضية حجاب المرأة في تركيا، وهو الجدل الجديد الذي ورث الجدل القديم حول الطربوش والبرنيطة، والذي حسم في نهاية المطاف بنصر حاسم للرأس المكشوف عند الرجال، بعد أن خرجت البرنيطة في الغرب من حيز الاستعمال، ولم يبق في الميدان غير حجاب المرأة كرمز للهوية والانتماء. ومن هنا نفهم السر في الرفض الذي ردت به المحكمة الدستورية التركية على طلب تقدم به حزب العدالة والتنمية "الحاكم" برفع الحظر المفروض على الحجاب، في المؤسسات التعليمية، منذ أتاتورك، والذي عزز قبل سنوات بضغط من العسكر الذين حكموا تركيا الجمهورية والديموقراطية والعلمانية بقوة الانقلابات العسكرية طيلة خمسين عاماً.
أما حجة المحكمة الدستورية في رفضها لرفع الحظر فهو الضرر الذي يلحقه ذلك بالسلم الاجتماعي. بمعنى أن رفعه اليوم في مؤسسات التعليم سيفضي إلى رفعه في غيرها من المؤسسات، وما يستتبع ذلك من أسلمة البلد وعودته إلى حكم الشريعة والسلاطين، ما سيفقد تركيا وجهها العلماني والديموقراطي والجمهوري، ويدخلها في دوامة العنف الاجتماعي. والواضح ان هذا الاعتبار الذي يتمسك به علمانيو تركيا هو سليل المسلّمة الأوروبية القديمة الجديدة القائلة بأن ما عندهم هو الحق والخير والجمال والحضارة، وما عند غيرهم هو الباطل والشر والقبح والبربرية.
والواضح أيضاً أن هذا الاعتبار هو ترجمة للشعار الأتاتوركي "من أجل الشعب ورغماً عن الشعب" بكل ما فيه من تناف مع مقتضيات العلمانية والجمهورية والديموقراطية. ومن حجج المحكمة أن كل نشاط ديني لا يحق له أن يستفيد من فضاءات الديموقراطية. لكن هذه الحجج مرفوضة حتى من داخل المنطق الديموقراطي. فمنظمة هيومان رايتس ووتش التي تشكل مرجعية عالمية في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، ومن ورائها لفيف كبير من القائلين بالعلمانية والديموقراطية، انتقدت حكم المحكمة الدستورية التركية واعتبرته ضربة موجهة إلى الحرية الدينية وإلى الكثير من الحقوق المدنية الأخرى، ووصل بها الأمر إلى حد توجيه اللوم إلى رجب طيب أردوغان لتقاعسه، كرئيس لوزراء تركيا، وكزعيم للأكثرية البرلمانية، في صياغة دستور جديد، على اعتبار أن الدستور الحالي الذي تستقي منه المحكمة أحكامها الهمايونية هو دستور عفا عليه الزمن.
واللوم نفسه موجه إلى أردوغان من 65 بالمئة من النساء التركيات اللواتي يرتدين الحجاب ومن الشرائح التركية التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بتأييد شعبي كاسح وغير مسبوق.
كما أن مراقبين غربيين عديدين يعتقدون بأن موقف المحكمة الدستورية إزاء الحجاب هو تمهيد لحظر حزب العدالة والتنمية الحاكم، بموجب ما تتمتع به من صلاحيات تجيز لها حل الأحزاب السياسية، إذا ما شكل وجودها مساساً بمبادئ العلمانية والجمهورية.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن الإقدام على هذه الخطوة سيعني تعطيل البرلمان والمؤسسات وهروب الاستثمارات الأجنبية وحرمان تركيا بالتالي من مستويات النمو العالية التي حققتها في ظل حزب العدالة والتنمية، كما سيجمد التقدم المتحقق على مسار مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الخروج من المأزق يتطلب، من المنظور الديموقراطي كما يظهر من موقف هيومان رايتس ووتش وغيرها، إعادة النظر بالدستور التركي، لأنه تحول إلى كابح لمسار الديموقراطية في تركيا. والمطلب مطروح أيضاً في تركيا. فقد طالب رئيس البرلمان التركي، كوكسال توبتان، مؤخراً، بوضع دستور جديد وإنشاء مجلس للشيوخ للحد من صلاحيات المحكمة الدستورية التي تحولت إلى دولة فوق الدولة في تركيا. لكن هذا المطلب يصطدم بمعارضة العسكر والسلك القضائي، ومن ورائهما بالنخبة السياسية التي تحكم تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي، باسم العلمانية والديموقراطية، ولكن بعقلية كانت وما تزال متعارضة مع مبادئ العلمانية والديموقراطية.
وفي ظل هذا الوضع، ساءت أوضاع تركيا على جميع المستويات، ولم تتجه نحو التحسن إلا في ظل بدء الإسلاميين في الوصول إلى السلطة بالأساليب الديموقراطية، خلال العقدين الماضيين. وعلى الرغم من التأييد الذي يتمتع به الإسلاميون في الشارع وبالتالي في صناديق الاقتراع، ظل سيف الحظر الدستوري مصلتاً فوق أحزابهم التي جرى حلها أكثر من مرة لتعود إلى الحكم تحت أسماء أخرى، كان آخرها اسم حزب العدالة والتنمية الحالي.
وأغلب الظن أن المسرحية ستعيد ذاتها مجدداً نحو عودة الحزب إلى الحكم تحت اسم جديد للاصطدام مجدداً بالصخرة الدستورية عينها. لكن الدوران في هذه الحلقة المفرغة لا يمكن، بنظر المراقبين الغربيين، أن يستمر إلى الأبد. إما دستور جديد في ظل إسلاميين ليبراليين، وإما توجه أكيد نحو إسلام أصولي. ومن هنا، يستغرب هؤلاء المراقبون تقاعس الإدارة الأميركية عن دعم حزب العدالة والتنمية.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1271 ـ 10 حزيران/ يونيو 2008