ارشيف من :آراء وتحليلات

فاصلة: العلم الحديث والشوفينية اللبنانية

فاصلة: العلم الحديث والشوفينية اللبنانية
كتبت ليلى نقولا الرحباني
يعاني الكثير من الشعوب بشكل عام ـ واللبنانيون بشكل خاص ـ من نزعة التفوق الحضاري على الشعوب الاخرى.. فإن زائراً لمصر مثلاً يسمع الكثير من مقولات "إننا فراعنة"! وفي المغرب العربي يسمع "نحن أميزيغيون"! وفي لبنان من منا لم يسمع من اللبنانيين ـ بخاصة خلال فترة الحرب الاهلية ـ مقولات "نحن فينيقيون ولسنا عرباً"؟!
الحقيقة ان نزعة التفوق الحضاري هذه ليست جديدة، ولا يمتاز بها شعب محدد من الشعوب، بل انها نزعة عريقة في التاريخ تعود الى الحضارة الإغريقية اليونانية، وتحديدا الى أثينا. لقد اعتمد المجتمع الأثيني تقسيمات جذرية، فوضع فئة خاصة متفوقة أسماها فئة "المواطنين"، أي أصحاب الحقوق داخل أسوار الحاضرة. اما من كانوا يعيشون خارجها فكانوا يُنعتون بـ"البرابرة". المتحضّر هو ابن الحاضرة، أما سواه فهو من البرابرة ولو كان إغريقياً مثله. والديمقراطية التي اشتهرت بها أثينا لم تكن متوافرة لكل الناس، بل كانت أمراً يخص هؤلاء وحدهم ومحجوبة عن الآخرين، أي البرابرة. والقانون يطبق على أهل الحواضر، والحقوق السياسية والمدنية كانت حكراً على هؤلاء من فئة "المواطنين"، بينما كانت حصة البرابرة الأعراف لا القوانين.. والحقوق السياسية لم تكن تشملهم، بل منطق الغلبة العسكرية والإخضاع القسري لمشيئة أهل الحواضر من الإغريق.
أما بالنسبة الى اللبنانيين، فبرغم أن قسماً كبيراً من الباحثين والمؤرخين أثبتوا ان الشعب اللبناني هو امتداد لمزيج من الحضارات والشعوب التي استعمرت هذا البلد وغزته واستوطنت فيه على مدى العصور، فإن كثراً من اللبنانيين استمروا في نزعة التفوق هذه، خاصة ان كثيرين منهم استخدم هذه "الشوفينية الفينيقية" في إطار التنصل من بعض الصفات الطائفية والسياسية والحضارية.
وقد كان للفترة الممتدة منذ منتصف القرن العشرين وما واكبها من تطورات كتصفية الاستعمار التقليدي ونشوء "اسرائيل" وتطور الصراع العربي الاسرائيلي، اضافة الى بروز حركة القومية العربية وما تلاها من خلافات عربية عربية، وما تسبب به الملف الفلسطيني ودخول قوات الردع العربية في لبنان من نزاعات.. كلها أمور ساهمت الى حد بعيد في تفاقم هذه النزعة وانتشارها بين المثقفين اللبنانيين الذين حاول بعضهم التفتيش عن "لغة لبنانية" تختلف في مفرداتها وتكوينها عن اللغة العربية.
أما اليوم فتأتي دراسة الدكتور اللبناني بيار زلوعة التي تحاول تحديد سمة وراثية خاصة بالفينيقيين من أجل تحديد آثارهم في الشعوب الحديثة، لا سيما تلك التي تسكن مناطق استوطنها الفينيقيون منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، لتنقض مقولة التفوق الحضاري هذه.  فبحسب دراسة الدكتور زلوعة التي تحدث عنها الى إحدى الصحف المحلية: "ان نسبة ?? إلى ?? فقط في المئة من اللبنانيين اليوم يحملون السمة الفينيقية، لا سيما سكان الساحل منهم، وإن النسبة نفسها احتلتها الاصول العربية، بينما توزعت النسب المئوية المتبقية، الاصول الاخرى، من الفاتحين والمستعمرين الآخرين. ويلاحظ ان السمة الفينيقية لدى سكان مستعمرات الفينيقيين في البحر المتوسط مثل قبرص ومالطة وجنوب إسبانيا وقرطاج، تتراوح بين ? و ?? في المئة، أي انه يمكن اعتبارهم متحدرين من الفينيقيين أيضاً".
اذاً يأتي العلم الوراثي للجينات البشرية اليوم ليكشف للبنانيين ان نزعة التفوق الحضاري التي تغنوا بها في الماضي قد لا يعود لها اساس، وأن على الشعوب ان تتغنى بإنجازاتها لا بإنجازات الاجداد، فالعودة الى الحضارات القديمة لاثبات الاختلاف والتميز وتبرير النزعة الشوفينية لم تعد تجدي، بل على اللبنانيين اليوم القبول بالاختلاف الحضاري كجزء من تنوع هذا الشعب وكمصدر للغنى والتطور.. كما عليهم التطلع نحو المستقبل لكتابة انجازات جديدة بدل التلهي بالتفتيش عن مآثر تاريخية نتفاخر بها على الشعوب الاخرى، لأن حاضرنا خالٍ من اي نوع من الانجازات، اللهم الا اذا اعتبرنا ـ كلبنانيين ـ ان التقاتل والعودة الى القبلية والعشائرية والاقطاعية هو نوع من الانجاز يجعلنا مفخرة الأمم.
الانتقاد/ العدد1312 ـ 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008 
2008-11-04