ارشيف من :ترجمات ودراسات
خاص الانتقاد.نت: الاعتراف بالجميل ... ليس من شيم فرنسا الاستعمارية ! (*)

البرلمان الجزائري سبق وطالب فرنسا ـ وهو يطالبها حالياً ـ بالاعتذار عما اقترفته من جرائم بحق الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية. في الوقت نفسه تنعقد في نواكشوط، بحضور حشد كبير من قادة الفكر والسياسة والإعلام، ندوة دولية حول حق الشعوب في التعويض عن حقبة الاستعمار. من طرفها، كانت فرنسا قد أصدرت قانوناً بتاريخ 23 شباط/فبراير 2005 يبخر الاستعمار ويعتبره مسعى تنويرياً أسهم في نشر الحضارة وقدم خدمات جليلة للشعوب المستعمرة. بالمناسبة، وفي الوقت الذي توجه فيه الدوائر الاستكبارية تهمة "الإرهاب" إلى حركات التحرر، تنشر "الانتقاد" مقالة للمناضل اليساري الفرنسي المعروف روبير لوزون حول الأسباب التي دفعت فرنسا إلى احتلال الجزائر. أسباب نجد مثيلاتها في جميع حركات الاستعمار والعدوان التي ما نزال نشهدها حتى اليوم.
بقلم: روبير لوزون
ترجمة: عقيل الشيخ حسين
أدى الغزو الاستعماري للجزائر إلى إبادة ثلث سكانها أي حوالي المليون قتيل. أما ذريعة الغزو فضربة بمروحة اليد تلقاها قنصل فرنسا "دوفال" : وتحت ستار معاقبة داي الجزائر على احتقاره لممثل فرنسا، قام الجيش الفرنسي بانتهاب بلد بأكمله قاتلاً في طريقه الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.
في العام 1794 كانت فرنسا تتعرض لهجوم عسكري من جميع الجهات. ولم تكن أراضيها قد تم اجتياحها من عدة نقاط وحسب، بل إن شعبها وجيشها كانا مهددين بالجوع. ولم تكن فرنسا قادرة على إنتاج ما يفي باحتياجاتها، كما أنها لم تجد مكاناً يمكنها أن تشتري منه كميات الحبوب الضرورية لسد النقص في هذا المجال. لم تجد أي مكان... باستثناء الجزائر، إذ أن الداي الجزائري قدم لحكومة "الكونفونسيون" كل التسهيلات اللازمة لشراء احتياجاتها من القمح.
بعد عامين، حلت حكومة "الإدارة" محل حكومة "الكونفونسيون". ولكن الحرب على فرنسا كانت ما تزال في أوجها. وكانت إنكلترا مستمرة في تنفيذ مخططها الهادف إلى تجويع جيوش الجمهورية الفرنسية. وفوق ذلك، كانت الخزينة الفرنسية خاوية الوفاض أو تكاد. عندها عرض داي الجزائر على الحكومة الفرنسية أن يقرضها مليوناً، دون فوائد، لتغطية مشترياتها من القمح الجزائري. وقبلت الحكومة الفرنسية هذا العرض وتمت عمليات الشراء، تحديداً، بواسطة شركة بكري وبوسناح، وهما تاجرن يهوديان كبيران. وكان الداي نفسه يسلم إلى هذين التاجرين القسم الأكبر من القمح الذي كانا يسلمانه بدورهما إلى فرنسا.
لكن كميات القمح التي استلمتها فرنسا تجاوزت بكثير المليون الذي تم اقتراضه. ومع هذا، فإن فرنسا لم تسدد ديونها. ليس الأمر مهماً ! ففرنسا بلد غني وذو حظوة، ولن يفوتها تسديد ديونها عندما تضع الحرب أوزارها. وعلى هذا، واصل الداي تسليم القمح إلى بكري الذي واصل بدوره تسليمه إلى فرنسا.
في العام 1815، حل السلام وطالب كل من بكري وداي الجزائر فرنسا بدفع ما عليها.
ولكن كل فرد يعلم أن البورجوازية الفرنسية لا تحب أن تدفع ديون الحرب. فهي تعتبر أن الشرف الذي منحته لمقرضيها عندما سمحت لهم بإخراجها من ورطتها أمر كاف وزيادة. ألم يحوزوا شرف مساعدتها على الانتصار ؟ ما الذي يريدونه فوق ذلك ؟
وعلى الرغم من عودة السلام واستتباب "النظام"، مانعت حكومة "الرستوراسيون"، شأن سابقتيها، في تسديد الديون لأولئك الذين قدموا للجندي الفرنسي الوسيلة لصنع خبزه. وظهرت اعتراضات مفادها أن بعض شحنات القمح كانت من نوعية رديئة. ذلك كان ممكناً، بل مرجحاً أيضاً.
لأن بكري وبوسناح لم يكن بإمكانهما أن يشكلا استثناءً في الجوقة المحترمة لتجار أزمنة الحرب. وعليه، قامت اللجنة الفرنسية التي اجتمعت عام 1819، بفرض تخفيضات ضخمة على فواتير بكري، وتحدد الباقي بموافقة بكري وداي الجزائر بشكل نهائي بمبلغ إجمالي هو سبعة ملايين. ولم يبق على فرنسا إلا أن تدفع. ولكنها لم تدفع. فقد نصت اتفاقية العام 1819 على أن تحسم من السبعة ملايين المبالغ التي يمكن أن يكون بكري مديناً بها لدائنيه. وبالتالي، قامت الخزينة الفرنسية بدفع المال، ولكنها دفعته في باريس إلى صندوق الودائع الفرنسي. وعلى الفور، انتشرت كالجراد سحابة من الاعتراضات، المحقة أو المزعومة، من قبل دائني بكري. وفي العام 1827، أي بعد ثماني سنوات على الاتفاق الذي حدد المبالغ المستحقة بشكل نهائي، لم تكن المحاكم الفرنسية قد اصدرت أحكامها بعد حول صحة الاعتراضات! وعلى ذلك، لم يكن الداي، في العام 1827، قد استوفى بعدُ المليون الذي اقرضه إلى فرنسا، بدون فوائد، قبل واحد وثلاثين عاماً ! والأدهى من ذلك، وبفعل الديون التي اعتنى بكري بترتيبها على نفسه في فرنسا، بات الداي معرضاً لعدم استلام قرش واحد. وهكذا، وباسم تلبية مطالبه، تمت شرعنة نهبه.
وعليه، كوفيء داي الجزائر بشكل رائع على ما أبداه من حمية في تموين فرنسا التي كانت تخضع للتجويع من قبل إنكلترا.
وفي العام 1827 نفسه، اكتشف الداي أمراً أشد خطورة بكثير تجاوز فيه عقوق حكومة "الرستوراسيون" كل الحدود.
فقد كانت فرنسا تتمتع باستثمار مركز تجاري يقع في نقطة على الشاطيء الجزائرى تدعى "كال" على مسافة 500 كلم من مدينة الجزائر. وكانت الحكومة الفرنسية قد وعدت الداي، بلسان ممثلها في الجزائر، "دوفال"، بعدم تحصين ذلك المركز. كان مركزاً لإجراء المعاملات التجارية لا أكثر. ولم يكن من المسموح تحويله إلى قلعة حصينة. لكن فرنسا حصنت ذلك المركز، وعلم الداي بالأمر.
افترضوا أن فرنسا تصرفت مع الولايات المتحدة بخصوص تسديد ديونها بالطريقة التي تصرفت بها مع داي الجزائر. ألا تعتقدون أن الأسطول الحربي الأميركي كان سيستولي، قبل زمن طويل على انقضاء ثلاثين عاماً، أقله على غوادلوب والمارتينيك، وأنه كان سيأتي للقيام بجولة في برست ؟ أو افترضوا أن الممثلية التجارية السوفياتية في باريس قد حولت مكاتبها إلى قلاع حربية، هل كان يمكن لفرنسا أن تنتظر طويلاً قبل طرد السفير السوفياتي إلى بلده، وقبل استعادة مكاتب الممثلية التجارية بالقوة ؟
من جهته، اكتفى داي الجزائر بطلب تفسير حول الموضوع. طلب ذلك كتابياً إلى الحكومة الفرنسية. ولما لم يحصل على أي رد، طلب ذلك شفاهياً إلى قنصل فرنسا. ماذا تريدون أن تكون إجابته ؟ بخصوص قضية "كال"، كان يعلم جيداً بأنه هو نفسه، دوفال، من سبق له وتعهد بان المركز التجاري لن يتم تحصينه. وكان يعلم أيضاً، أنه قد حصن رغم ذلك. في هذه الحالة، وطالما أنه لا يمتلك إجابة مناسبة، لم يكن منه إلا أن رد بطريقة غير لائقة. عندها، غضب الداي وشتمه وانتهى إلى ضرب "ممثل فرنسا" بمروحته اليدوية.
وشكل ذلك ذريعة !
وعزمت الحكومة الفرنسية، انطلاقاً من قناعتها غير الصادقة، على معاقبة الداي لأنه "أهان فرنسا". ذلكم أن "شرف فرنسا" ليس في تسديد ديونها بأسرع وقت ممكن، ولا في احترام كلمتها. "شرف فرنسا" كان في ضرب من يأخذ عليها أعمالها غير المشرفة. "أنا أسد"و ما اقوله هو الأفضل... لأنني الأقوى. وأنا الأقوى ليس فقط بالسلاح، بل أيضاً بكل منظومة الأكاذيب التي اختلقتها لتخدمني تحت أسماء التعليم والأدب والـ "ثقافة"... وبالتالي، فأنا أجعل الكذب حقيقة.
ثم انبرى جيش من "المثقفين" عبر العالم إلى القول بأنني أهنت بلا سبب، وبأن حقي لا ينازع في الاستيلاء على الجزائر، وبأن ذلك هو الحقيقة والحقيقة الساطعة التي يعترف بها الجميع. ليس هنالك فرنسي واحد، ولا تلميذ واحد في المدرسة الابتدائية إلا ويعلم أن "ضربة المروحة" التي وجهها الداي حسين كانت السبب في غزو الجزائر. ولكن كم هو عدد من تم إعلامهم، يا سادتي الأساتذة، بقصة تحصينات المركز التجاري ؟ ليس هنالك كتاب مدرسي واحد من كتب التاريخ إلا وفيه رسوم للداي وهو يضرب "ممثل فرنسا". ولكننا لا نجد معلومات عن الأسباب التي جعلت الداي يستشيط غضباً، في ذلك اليوم، إلا في بعض الكتب النادرة والمطبوعة بعدد قليل جداً من النسخ والمنسية في مجاهل المكتبات. "الرواية" البورجوازية هي وحدها المعروفة. غضب الداي يشار إليه بالبنان، أما أسباب غضبه فمخبأة بعناية...
(*) المقالة نشرت على موقع مجلة ماريان 2 الفرنسية.