ارشيف من :ترجمات ودراسات

ميونيخ : تصدعات في العلاقات الأوروبية الأميركية !

ميونيخ : تصدعات في العلاقات الأوروبية الأميركية !
عقيل الشيخ حسين
اختتم مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية أعماله مساء الأحد بعد أن ناقش جملة قضايا ومشاكل دولية كالحرب في أفغانستان وملف إيران النووي وإمدادات الطاقة والمناخ. أما مشكلة الشرق الأوسط، فقد اكتفى منسق المؤتمر الألماني فولفغانغ  إيشنخر بالإعراب عن أمله في إيجاد حل لها انطلاقاَ من خطة جديدة على الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يقوم بوضعها. 
والمعروف أن الحلف الأطلسي يهيمن على أجواء هذا المؤتمرالذي ينعقد سنوياً منذ عقود والذي توافد إليه العشرات من رؤساء الدول ووزراء الدفاع والمسؤولين الاقتصاديين من أربعين بلداً في العالم. 
وإذا كان الطابع البروتوكولي قد طغى على أعمال المؤتمر الذي وضع لنفسه مهمة تتلخص بالعمل من أجل إحلال السلام والأمن في العالم، فإن الإنشائيات لم تحجب التطورات الكبرى في عالم هو في طور إعادة التشكل في ظل انبثاق قوى واستقطابات جديدة. 
وتاتي هذه التطورات على خلفية واقع لم يفض فيه زوال القطبية الثنائية إلى الاستقرار، كما كان متوقعاً، في ظل قطبية أحادية بزعامة الولايات المتحدة، بل إلى أزمات وتحولات تدلل على استحالة استمرار الأوضاع في العالم دون إدخال تغييرات جذرية عليه. 
ظهر ذلك داخل المؤتمر، وعلى هوامشه وخارج حدوده، وعكس تطورات هامة أبرزها مصادقة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف على عقيدة جديدة صاغها مجلس الأمن الروسي للسنوات العشر القادمة. أبرز نقاط هذه العقيدة أنها اعتبرت، في وقت يشدد فيه الغربيون على أن الملف النووي الإيراني، أو تنظيم القاعدة، هما الخطر الأول الذي يهدد الاستقرار في العالم، اعتبرت أن  الحلف الأطلسي هو الخطر العسكري الأول الذي يهدد الأمن العالمي وروسيا بسبب محاولاته الرامية إلى عولمة مهامه بما يخالف القانون الدولي. وكذلك بسبب توسعه في البلدان المجاورة لروسيا. كما أكدت العقيدة الجديدة بان روسيا تحتفظ بحقها في اللجوء إلى استخدام قدراتها النووية في الرد على هجوم نووي أو قوة موازية.
نبرة تصعيدية واضحة حاول الأمين العام للحلف الأطلسي أندرس راسموسن أن يخفف من تأثيراتها عبر التأكيد بأن الحلف الأطلسي ليس عدواً لروسيا، وعبر التلويح بشراكة بين روسيا والحلف (مقابل الدعوة الروسية المعروفة لإيجاد نظام أمني دولي بديل عن الحلف الأطلسي الذي فقد مبررات وجوده بعد انهيار حلف وارسو). 
وسواء كان التهديد الروسي نووياً أو غير نووي،فإنه ما كان ليمر دون انبعاث الهلع الأوروبي القديم والمستجد إزاء الخطر السوفياتي سابقاً والروسي حالياً. هلع لا يمكن، أو لم يعد من الممكن، تبديده من خلال الركون إلى قوة الأطلسي أو قوة أميركا المتورطة في حروبها في أفغانستان والعراق والمنشغلة بأزماتها الداخلية. 
شعور أوروبا بالتهميش، في أجواء استبعادها عن صنع القرار الأطلسي، بالترافق مع تصاعد الضغط الأميركي عليها بهدف رفع مستوى إسهامها في دفع ضريبة حروب الأطلسي، تفاقم في سياق ما اعتبره المراقبون صفعة مهينة تلقتها من أوباما الذي أعلن عزمه مؤخراً على عدم المشاركة في القمة التي تجمع الولايات المتحدة وأوروبا كل عام، والذي كان من المقرر عقدها في مدريد في 24 و25 أيار/مايو القادم. خصوصاً وأن أوباما لم يمنح قمة العام الماضي التي تستغرق يومين كاملين غير ساعة ونصف من وقته الثمين. 
صدمة جديدة تضاف إلى تلك التي نجمت في أوروبا عن تفرد الولايات المتحدة بالتفاوض، بعد قمة المناخ التي عقدت في كوبنهاغن في كانون الأول / ديسمبر الماضي، مع الصين والهند حول مشكلات المناخ. وموقف يعيشه الأوروبيون بمأساوية شبيهة بتلك التي عاشوها يوم أطلق وزير الدفاع في إدارة المحافظين الجدد، دونالد رامسفيلد، تصريحاته الشهيرة حول "أوروبا العجوز". 
كل ذلك، وفي وقت تبرهن فيه فرنسا ساركوزي على طواعيتها اللامحدودة إزاء السياسات الأميركية، هو في أساس الدعوة التي أطلقها مجدداً، من ميونيخ، وزير الدفاع الألماني، غويدو وسترويل، لإنشاء جيش أوروبي موحد بقيادة أوروبية صرفة.
وإذا كانت هذه الدعوة قد جاءت كانعكاس للتململ الأوروبي إزاء تحكم الولايات المتحدة بقرار الأطلسي، فإنها تعبر عن رغبة العديد من دول الاتحاد الأوروربي بلعب دور أكثر فاعلية على المسرح الدولي. لكن هذه الرغبة مفتوحة على الإحباط الأكيد لأنها لا يمكن أن تأخذ طريقها نحو التحقق إلا بعد تمكن الأوروبيين من اعتماد سياسة موحدة إزاء المشكلات الدولية. كما أن إنشاء جيش أوروبي يتطلب موازنات لا يبدو الاتحاد قادراً على تحملها في وقت تعجز فيه البلدان الأوروبية عن "تنمية" موازناتها العسكرية الخاصة. 
أميركا منهكة في حروبها وأزماتها المالية وغير المالية، وأوروبا محبطة وخائفة على مصيرها في حين تصرف دول ناشئة كروسيا والصين والهند وإيران بسخاء ملحوظ على موازناتها العسكرية، وتحقق مواقع أكثر تقدماً على مسرح السياسة الدولية. وإذا ما اكتفينا بالمثال الصيني نجد، بعد الاجتياح الصيني الواسع للسوق الأميركية، وبعد التمدد الصيني في إفريقيا، ناهيكم عن التوسع في الجوار الصيني المباشر، أن الشهية الصينية تمتد نحو أوروبا بهدف تحقيق المزيد من المكاسب فيها. 
فمن الملفت أن الصين أوفدت، للمرة الأولى، وزير خارجيتها إلى ميونيخ مع وفد اقتصادي كبير ليؤكد أمام المؤتمر على أهمية الشراكة مع أوروبا، وعلى رغبة الصين في رؤية أوروبا كبيرة ومتقدمة ومؤثرة. بكلام آخر، يقول الوزير الصيني للأوروبيين : ما عندنا أفضل مما عند الأميركيين ! 
2010-02-11