ارشيف من :آراء وتحليلات
المأزق الإسرائيلي: بين ضرورة الحرب.. والعجز عن خوضها

لؤي توفيق حسن(*)
عوّل بن غوريون على نظريته "اسرائيل الوعاء" الذي "تنصهر" فيه جموع اليهود الوافدين كيما يغدو هذا الكيان " أمة" بحسب تعبيره. أما السبيل إلى ذلك فيتم عبر أمرين اثنين وفقاً لرؤيته.
الأول: بناء تربوي وثقافي إلى جانب وسائل الإعلام والخدمة العسكرية لانتاج أجيال أقرب إلى الأوروبي العلماني. أما النموذج النمطي فكان (التسابار) وهو الاسم الذي يطلق على اليهود الشباب الذين ولدوا في فلسطين قبل إنشاء الكيان الصهيوني.
الثاني: ان يصبح (الخطر) على "الدولة"، وما يستدعيه من حروب استباقية، وبالتالي المزيد من التوسع. هو إحدى آليات "الصهر". بل عوّل بن غوريون على ذلك كثيراً حتى كان يردد: "عندما تكف اسرائيل عن التوسع تبدأ بالزوال"!.
أما الأمر الأول فقد باء بالفشل، فاليهود الشرقيون يشكون من التمييز الذي يعانونه من نظرائهم الغربيين الذين يعتبرونهم أقل درجةٍ منهم. فيما ادت الهجرة من "الاتحاد السوفياتي" لأكثر من مليون شخص إلى نشوء مجتمع جديد تماماً، له خصوصياته. مدارسه، مسارحه، مطاعمه، صحفه ومحطات تلفزته، وإلى آخر ما هنالك. أي مجتمع غير مندمج. أما وفق الإحصائيات الموثوقة فإن أكثر من 40% من هؤلاء "يعتبرون انفسهم يهوداً ولكن علمانيين" و45% "يعتبرون انفسهم روساً" بينهم 15 ألفا من المسيحيين الذين "أعادوا الحياة إلى الكنائس الارثوذوكسية في الجليل ويافا والقدس". فيما يقل من يعتبرون انفسهم اسرائيليين عن 15%.
أما النموذج "العلماني" ، فقد نعاه الكاتب اليهودي "يورام كينوك" في صحيفة "هاآرتس" عندما طالب بتقسيم " إسرائيل" إلى دولتين "القدس والجليل للمتعصبين غير الأوروبيين"... أما تل أبيب والساحل فيكون "للمجددين"!!!. هذه الحقيقة دعت الكاتب اليهودي "ميشيل فارشوسكي" – المعادي للصهيونية – للكشف عن مدى الفشل في خلق "كيان وطني جديد". بل لعله أسهب في شرح مأزق "اسرائيل" في كتابه "اسرائيل – فلسطين". ليخلص إلى القول: "بدلاً من ان تصبح اسرائيل دولة – وطناً فإنها نمت على شكل موزاييك متعدد الثقافات .. هذه الحقيقة تفرض تعريفاً حقيقياً للدولة اليهودية"!!.
لم يبقَ أمام القادة الإسرائيلين إلا الحروب للملمة اشتات هذا المجتمع بل المجتمعات، وذلك على فكرة العسكرة والتوسع تحت مقولة (أمن اسرائيل). وقد كان هذا الخيار ممكناً، وسهلاً من الوجهة العملية، ما دام يحظى بغطاء سياسي أمريكي إلى جانب ما وفرته واشنطن لحليفتها "اسرائيل"، من كل عناصر التفوق العسكري، تفوقاً ساحقاً،اكسبها فيما أكسبها ميزتين عسكريتين:
إمكانية نقل المعركة فوراً إلى أرض الخصم ، وجعل الداخل الإسرائيلي خارج نيرانها.
حسم المواجهة بسرعة وبأقل الخسائر في صفوف قواتها.
لقد تجلى ما سبق بوضوح في حرب حزيران/ يونيو 1967، غير ان المسار أخذ يتغير. البداية جاءت في حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973 التي شكلت علامة فارقة من حيث أنها أول مواجهة نوعية على مستوى الجيوش التقليدية أظهرت إمكانيات المقاتل العربي على خوض الحروب الحديثة.
لكن التحول ظهر جلياً، فيما حققته المقاومات على أرض لبنان بدءا من إجبار الاحتلال على الانسحاب من الأراضي التي احتلها خلال اجتياح 1982 وانكفائه نحو الشريط الحدودي. ثم اكتمل التحول مع انسحاب "اسرائيل" المذل عام 2000 من الشريط المذكور، والذي جاء عنواناً لهزيمة حقيقية كونها لم تتمكن من الاحتفاظ به بالرغم من "أهميته الحيوية" لما تسميه (أمنها) فباتت التضحية به أقل كلفة من الخسائر الجسيمة التي الحقتها بها المقاومة الإسلامية.
لكن المنعطف التاريخي في الصراع العربي الاسرائيلي كان في حرب تموز/ يوليو 2006، وقد أجمع على ذلك القريب والبعيد. فهذه المواجهة التي خاضتها المقاومة لم تكن وفقاً لحرب العصابات حيث الاغارات والانسحاب بقصد انهاك العدو. ولكنها قتال مباشر معه وعلى امتداد جبهة طويلة، خاضتها المقاومة وفقاً لطريقتها التي ابتدعتها من وحي تراكم الخبرات. وهي الآن موضع دراسة وتحليل من الأكاديميات العسكرية المختصة.
ولعل أبرز الدروس المستقاة من هذه المواجهة ان "اسرائيل" لم تعد وحسب قادرة على حسم المعركة (بالمطلق) بل الانتصار فيها. وبعد هذا فإن الحرب المذكورة قد اسقطت مفهوم الجبهة. فالمواجهة امتدت من شمال لبنان تقريباً إلى اواسط فلسطين حيث وصلت صواريخ المقاومة. وهي المرة الأولى التي يشعر فيها الداخل الإسرائيلي بحرارة الحرب.
ويأتي الخطاب الأخير للسيد حسن نصرالله ليكرس هذه الحقيقة عبر تأكيده بأن كل الكيان الصهيوني بات الآن تحت مرمى صواريخ المقاومة. صواريخ حديثة. شديدة التدمير. دقيقة الإصابة، وبحشوات متفجرة متعددة الأنواع بحسب نوعية الهدف المختار.
والخلاصة أن "إسرائيل" قد فقدت عسكرياً ميزتيها المذكورتين. وعليه فإن أية مواجهة محتملة ستجعل (المجتمعات الإسرائيلية) المرفهة! في خضم جحيمٍ من الحرائق والتدمير. الأمر الذي تتجاور تداعياته إرباك الداخل إلى وضعه على محك الانهيار.
والمآل ان "اسرائيل" لم تعد قادرة على الهروب من تناقضاتها البنيوية. ومن الاستحقاقات الديموغرافية التي تطرق أبواب مستقبلها بقوة. لم تعد قادرة على الهروب إلى الأمام بالمزيد من الحروب والتوسع كما أراد بن غوريون. إنه المأزق الإسرائيلي الذي ينبثق بين ضرورة الحرب والعجز عن خوضها.
(*) كاتب من لبنان
عوّل بن غوريون على نظريته "اسرائيل الوعاء" الذي "تنصهر" فيه جموع اليهود الوافدين كيما يغدو هذا الكيان " أمة" بحسب تعبيره. أما السبيل إلى ذلك فيتم عبر أمرين اثنين وفقاً لرؤيته.
الأول: بناء تربوي وثقافي إلى جانب وسائل الإعلام والخدمة العسكرية لانتاج أجيال أقرب إلى الأوروبي العلماني. أما النموذج النمطي فكان (التسابار) وهو الاسم الذي يطلق على اليهود الشباب الذين ولدوا في فلسطين قبل إنشاء الكيان الصهيوني.
الثاني: ان يصبح (الخطر) على "الدولة"، وما يستدعيه من حروب استباقية، وبالتالي المزيد من التوسع. هو إحدى آليات "الصهر". بل عوّل بن غوريون على ذلك كثيراً حتى كان يردد: "عندما تكف اسرائيل عن التوسع تبدأ بالزوال"!.
أما الأمر الأول فقد باء بالفشل، فاليهود الشرقيون يشكون من التمييز الذي يعانونه من نظرائهم الغربيين الذين يعتبرونهم أقل درجةٍ منهم. فيما ادت الهجرة من "الاتحاد السوفياتي" لأكثر من مليون شخص إلى نشوء مجتمع جديد تماماً، له خصوصياته. مدارسه، مسارحه، مطاعمه، صحفه ومحطات تلفزته، وإلى آخر ما هنالك. أي مجتمع غير مندمج. أما وفق الإحصائيات الموثوقة فإن أكثر من 40% من هؤلاء "يعتبرون انفسهم يهوداً ولكن علمانيين" و45% "يعتبرون انفسهم روساً" بينهم 15 ألفا من المسيحيين الذين "أعادوا الحياة إلى الكنائس الارثوذوكسية في الجليل ويافا والقدس". فيما يقل من يعتبرون انفسهم اسرائيليين عن 15%.
أما النموذج "العلماني" ، فقد نعاه الكاتب اليهودي "يورام كينوك" في صحيفة "هاآرتس" عندما طالب بتقسيم " إسرائيل" إلى دولتين "القدس والجليل للمتعصبين غير الأوروبيين"... أما تل أبيب والساحل فيكون "للمجددين"!!!. هذه الحقيقة دعت الكاتب اليهودي "ميشيل فارشوسكي" – المعادي للصهيونية – للكشف عن مدى الفشل في خلق "كيان وطني جديد". بل لعله أسهب في شرح مأزق "اسرائيل" في كتابه "اسرائيل – فلسطين". ليخلص إلى القول: "بدلاً من ان تصبح اسرائيل دولة – وطناً فإنها نمت على شكل موزاييك متعدد الثقافات .. هذه الحقيقة تفرض تعريفاً حقيقياً للدولة اليهودية"!!.
لم يبقَ أمام القادة الإسرائيلين إلا الحروب للملمة اشتات هذا المجتمع بل المجتمعات، وذلك على فكرة العسكرة والتوسع تحت مقولة (أمن اسرائيل). وقد كان هذا الخيار ممكناً، وسهلاً من الوجهة العملية، ما دام يحظى بغطاء سياسي أمريكي إلى جانب ما وفرته واشنطن لحليفتها "اسرائيل"، من كل عناصر التفوق العسكري، تفوقاً ساحقاً،اكسبها فيما أكسبها ميزتين عسكريتين:
إمكانية نقل المعركة فوراً إلى أرض الخصم ، وجعل الداخل الإسرائيلي خارج نيرانها.
حسم المواجهة بسرعة وبأقل الخسائر في صفوف قواتها.
لقد تجلى ما سبق بوضوح في حرب حزيران/ يونيو 1967، غير ان المسار أخذ يتغير. البداية جاءت في حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973 التي شكلت علامة فارقة من حيث أنها أول مواجهة نوعية على مستوى الجيوش التقليدية أظهرت إمكانيات المقاتل العربي على خوض الحروب الحديثة.
لكن التحول ظهر جلياً، فيما حققته المقاومات على أرض لبنان بدءا من إجبار الاحتلال على الانسحاب من الأراضي التي احتلها خلال اجتياح 1982 وانكفائه نحو الشريط الحدودي. ثم اكتمل التحول مع انسحاب "اسرائيل" المذل عام 2000 من الشريط المذكور، والذي جاء عنواناً لهزيمة حقيقية كونها لم تتمكن من الاحتفاظ به بالرغم من "أهميته الحيوية" لما تسميه (أمنها) فباتت التضحية به أقل كلفة من الخسائر الجسيمة التي الحقتها بها المقاومة الإسلامية.
لكن المنعطف التاريخي في الصراع العربي الاسرائيلي كان في حرب تموز/ يوليو 2006، وقد أجمع على ذلك القريب والبعيد. فهذه المواجهة التي خاضتها المقاومة لم تكن وفقاً لحرب العصابات حيث الاغارات والانسحاب بقصد انهاك العدو. ولكنها قتال مباشر معه وعلى امتداد جبهة طويلة، خاضتها المقاومة وفقاً لطريقتها التي ابتدعتها من وحي تراكم الخبرات. وهي الآن موضع دراسة وتحليل من الأكاديميات العسكرية المختصة.
ولعل أبرز الدروس المستقاة من هذه المواجهة ان "اسرائيل" لم تعد وحسب قادرة على حسم المعركة (بالمطلق) بل الانتصار فيها. وبعد هذا فإن الحرب المذكورة قد اسقطت مفهوم الجبهة. فالمواجهة امتدت من شمال لبنان تقريباً إلى اواسط فلسطين حيث وصلت صواريخ المقاومة. وهي المرة الأولى التي يشعر فيها الداخل الإسرائيلي بحرارة الحرب.
ويأتي الخطاب الأخير للسيد حسن نصرالله ليكرس هذه الحقيقة عبر تأكيده بأن كل الكيان الصهيوني بات الآن تحت مرمى صواريخ المقاومة. صواريخ حديثة. شديدة التدمير. دقيقة الإصابة، وبحشوات متفجرة متعددة الأنواع بحسب نوعية الهدف المختار.
والخلاصة أن "إسرائيل" قد فقدت عسكرياً ميزتيها المذكورتين. وعليه فإن أية مواجهة محتملة ستجعل (المجتمعات الإسرائيلية) المرفهة! في خضم جحيمٍ من الحرائق والتدمير. الأمر الذي تتجاور تداعياته إرباك الداخل إلى وضعه على محك الانهيار.
والمآل ان "اسرائيل" لم تعد قادرة على الهروب من تناقضاتها البنيوية. ومن الاستحقاقات الديموغرافية التي تطرق أبواب مستقبلها بقوة. لم تعد قادرة على الهروب إلى الأمام بالمزيد من الحروب والتوسع كما أراد بن غوريون. إنه المأزق الإسرائيلي الذي ينبثق بين ضرورة الحرب والعجز عن خوضها.
(*) كاتب من لبنان