ارشيف من :آراء وتحليلات
تفاعلات ما بعد الانتخابات البرلمانية العراقية

عادل الجبوري
كتبت في مقال سابق تحت عنوان (تفاعلات ما قبل الانتخابات)، ".. تذهب بعض الاوساط الى انه مع اقتراب موعد الانتخابات وقرب انطلاق الحملات الدعائية الانتخابية، ستزداد حدة التجاذبات والاحتقانات، لكن في ذات الوقت فإن معالم وملامح الخريطة السياسية لما بعد الانتخابات تتضح وتتبلور يوما بعد اخر، وان اجواء ومناخات التأزيم التي تحاول افتعالها بعض الاطراف، هي احد عوامل تبلور معالم وملامح الخريطة السياسية القادمة".
ولعله امر طبيعي جدا ان تشهد مرحلة ماقبل الانتخابات ـ أي انتخابات ـ اجواءً مشحونة بالتوتر والانفعال، والكثير من التجاذبات والاحتقانات، ومن الطبيعي جدا ان تأخذ الامور منحى اخر بعد الانتخابات، تغيب فيه مماحكات ومناكفات التنافس المحموم من اجل كسب اكبر قدر من اصوات الناخبين، لتتجه الى البحث في صياغة تصورات ورؤى مشتركة، من خلال بلورة نقاط التوافق والالتقاء بين برامج سياسية مختلفة للقوى التي خاضت غمار التنافس وكانت صاحبة الحظ الاوفر من اصوات الناخبين.
وبمختلف المقاييس والاعتبارات والمعايير فإن الاستحقاق الانتخابي الاخير كان ناجحا الى حد كبير، ومن معالم ومؤشرات ومصاديق ذلك النجاح:
ـ نسبة المشاركة الواسعة التي بلغت بحسب المفوضية العليا المستقلة للانتخابات 62,8%، وهذه النسبة تعد بالاطار العام جيدة جدا، لا سيما في بلد مثل العراق ما زال حديث العهد بالتجربة اللديمقراطية، ولم تستتب اوضاعه الامنية والسياسية والاقتصادية بالقدر الكافي والمطلوب.
ـ حصول نضج وتطور ملموس في الكثير من البرامج والتوجهات السياسية، لبعض او ـ عدد كبير من ـ القوى والتيارات السياسية التي شاركت في الانتخابات، وانحسار مظاهر التسقيط والتشهير بمستوى معين مقارنة بالحملات الانتخابية السابقة.
ـ فشل الجماعات الارهابية المسلحة في تنفيذ عمليات من شأنها ثني المواطنين عن التوجه الى صناديق الاقتراع، وحتى العمليات الارهابية التي وقعت في مناطق من العاصمة بغداد ومحافظات اخرى، لم تؤثر على الرغبة والتفاعل الكبيرين للمشاركة في الانتخابات.
ـ اداء المفوضية العليا المستقلة للانتخابات الذي تميز بالمهنية والحرفية، وسرعة معالجة جزء لا بأس به من الاشكاليات والسلبيات والاخطاء والهفوات، مقارنة بالانتخابات السابقة، كانتخابات مجالس المحافظات مطلع العام الماضي، وانتخابات الجمعية الوطنية مطلع عام 2005، والاستفتاء على الدستور في منتصف شهر تشرين الاول/اكتوبر من نفس العام، وانتخابات مجلس النواب لدورته الاولى في نهاية عام 2005.
ولا شك انه من المنطقي ان ينعكس النجاح بإطاره العام والشامل على مرحلة ما بعد الانتخابات، والتي سيكون الاستحقاق الاهم فيها هو تشكيل حكومة قوية ومنسجمة وقادرة على احداث تغييرات نوعية في الواقع العام، من خلال برنامج وطني شامل يستند الى الاولويات المطلوبة في مختلف الجوانب والمجالات.
وتشير الارقام والمعطيات الاولية لنتائج الانتخابات، الى ان المرحلة المقبلة تتطلب بالدرجة الاساس بناء تحالفات وائتلافات بين القوى والكيانات الكبيرة، وهذا يعني الحاجة الى تعزيز مبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية.
وهنا ينبغي التمييز بين مبدأ الشراكة الذي يعد ضروريا ـ بل ولا بد منه ـ من اجل انجاح العملية السياسية وتجنب الخيارات السيئة ـ وهذا المبدأ يحتكم اساسا الى نتائج ومعطيات الاستحقاق الانتخابي، ومعايير الكفاءة والمهنية والقدرة على الاداء الجيد ـ وبين مبدأ المحاصصة الذي يحتكم الى المعايير القومية والمذهبية والطائفية بالدرجة الاساس لتشكيل معادلات ادارة الدولة وتوجيه مفاصلها.
وفي المرحلة السابقة فإن ايجابيات الشراكة اختلطت مع سلبيات المحاصصة، لتجعل المشهد العراقي العام مرتبكا ومضطربا في الكثير من جوانبه، وقد انعكس ذلك الارتباك والاضطراب في احيان كثيرة سلبا على المواطن العراقي، سياسيا وامنيا واقتصاديا وخدميا.
المحاصصة تفهم على ان هناك شيئا ما ثمينا، ومن المفترض ان يكون لكل طرف ومكوّن حصة فيه بصرف النظر عن اعتبارات ومقتضيات المصالح العامة، أي ان مبدأ الاخذ سيكون حاضرا بقوة بينما سيغيب مبدأ العطاء، في حين يكون هناك توازن وحضور لكلا المبدأين ـ الاخذ والعطاء ـ عند الاحتكام لخيار الشراكة.
ولعله على ضوء المعطيات والارقام الاولية لنتائج الانتخابات البرلمانية الاخيرة، والمواقف المعلنة لمختلف القوى والتيارات والشخصيات السياسية العراقية، ستحمل المرحلة المقبلة بعضا من اوجه الشبه مع المرحلة السابقة، في ذات الوقت الذي ستكون مختلفة عنها في جوانب عديدة، ومن المفيد ان نشير هنا الى ابرز ملامح ومعالم المرحلة المقبلة.
ـ بما انه لن تتمكن اية كتلة من الحصول على اغلبية كبيرة تؤهلها لتشكيل حكومة اغلبية برلمانية وحدها، فإن الخيار الاقرب الى الواقع والانجع، هو تشكيل ائتلافات وتحالفات من الكتل والكيانات الكبيرة، وبعبارة اخرى ان الحكومة المقبلة ستكون حكومة ائتلافية، او حكومة وحدة وطنية، او حكومة خدمة وطنية، اذا كان ملف الخدمات سيمثل الاولوية لها، مثلما مثّل ملف الامن الاولوية في برنامج الحكومة الحالية.
ـ وارتباطا بالنقطة الانفة الذكر فإن التوافقات السياسية بين الكيانات التي ستشكل الحكومة، يعد امرا لا مناص منه، بدءا من البرنامج السياسي وتحديد الاولويات، ومرورا بتشخيص مسارات وآليات التعاطي مع جملة من الملفات والقضايا المهمة، وانتهاءً باختيار اعضاء الفريق الحكومي.
ـ قد لا تستطيع النخب والقوى السياسية العراقية مغادرة مبدأ المحاصصة في المرحلة المقبلة الى الابد، لكنها يمكن ان تختزل وتقلص مساحاتها، من خلال الاحتكام الى الاستحقاق الانتخابي، وعدم تكرار مفارقات غير سارة شهدتها المرحلة السابقة في توزيع المناصب والمواقع المهمة في الدولة.
ونسمع اليوم تأكيدات من سياسيين ينتمون الى تيارات مختلفة على اهمية نبذ مبدأ المحاصصة، بيد اننا في ذات الوقت نسمع من يقول بأن تحقيق ذلك الامر ليس سهلا ويسيرا، بل تعترضه عوائق ومصاعب وعراقيل جمة ترتبط بمجمل حيثيات الواقع العراقي، وهذا صحيح وواقعي الى حد كبير.
ـ على الارجح سيستغرق تشكيل الحكومة الجديدة وقتا غير قصير، وقد يبدو للبعض ان ذلك يعد امرا سلبيا، وهو ربما يكون كذلك بالفعل، لكن مبدأ التوافقات السياسية، ومبدأ الشراكة الحقيقية، اذا اريد العمل به فعلا فإنه يفرض وضع ترتيبات، وبحث قضايا تفصيلية وجزئية، حتى تنتهي الامور الى برنامج موحد ومتفق عليه، ولا شك ان التأخر الذي يفضي الى نتائج ايجابية ويؤسس لاوضاع قوية ومتماسكة، افضل من التسرع لا لشيء الا للهروب من تهمة التأخر والتلكؤ.
ـ هناك بعض المؤشرات تذهب الى ان الاطار العام لخارطة التحالفات السياسية لن يتغير كثيرا، وهذا ربما كان في مجمله امرا ايجابيا لانه لا يحتم العودة الى الوراء للانطلاق من جديد، بل مواصلة المشوار مثلما يقولون، على ضوء قراءات ومراجعات دقيقة وموضوعية وهادئة للمرحلة السابقة لتعزيز النجاحات ومعالجة الاخفاقات.
لا يخلو الامر في مجمله من صعوبة غير قليلة، وهذا امر طبيعي في ظل ممارسة ديمقراطية مظهرها الرئيسي ومعلمها الابرز هو الحراك السياسي المتعدد الاتجاهات والمستويات في بلد لم يتعدّ عمر التجربة الديمقراطية فيه السبعة اعوام.