ارشيف من : 2005-2008

الصوم وعروج الروح إلى تقوى الله

الصوم وعروج الروح إلى تقوى الله

الشريفة "لعلكم تتقون" الواردة في الآية القرآنية أن التعاليم والتكاليف والأوامر والنواهي والإرشادات الإلهية، تتضمن غايات ولها أبعاد كبيرة وهامة من خلال تشريعها، وتحمل في طياتها الخير والصلاح للفرد والأمة، وتبني لهم النظام الاجتماعي الصالح لهم.‏

وليس هناك أي هدف رباني من وراء هذه التكاليف للأمة الاسلامية التي هي خاتمة الأمم، والأمة النموذجية والأمة الوسط وحاملة الدعوة وحاميتها، الا أن تسير باتجاه العدل وميزان التوحيد الخالص والتقوى والفلاح.‏

وكنموذج على ذلك فإن تشريع الصوم يهدف إلى مثل هذه المقاصد والفوائد، وهي الغايات المنظورة في إطار الرسالة الاسلامية.‏

وإذا لم تكن لنا القدرة الكافية واللازمة، أو لم نستطع تحديد الكثير من العلل والغايات التي من أجلها فرض الله الصوم على عباده، فإن هذه الجملة الكريمة "لعلكم تتقون" التي ختم الله بها الآية الدالة على حكم وجوب الصوم تكفينا في الإشارة والدلالة على الفائدة العظيمة التي نحصّلها من خلال الصوم.‏

فهذه العبارة أو الجملة تشير أيضاً إلى أهمية التقوى ودورها في بناء الشخصية الإسلامية التي تتميز بالخوف والتقوى والورع.‏

ومن خلال هذه الجملة نرى أن الباري عز وجل يكتفي بها في الاشارة إلى الهدف السامي من الصوم، حيث يستطيع الإنسان مع تحصيلها ـ أي التقوى ـ أن يدرك أن الصوم ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب بقدر ما هو امتناع عن الملذات والشهوات الدنيوية والنفسية.‏

فالتقوى هي اشتقاق من الوقاية، والصوم هو وقاية النفس والروح والجسد عن المحرمات، والسعي لإطاعة الأوامر والنواهي الإلهية.‏

وهو أفضل وأعظم عملية تدريب لهذه الروح التي ابتعدت في مسارها عن خط الله، وإعادتها إلى حظيرة القدس الإلهية، وعروجها إلى ربها آمنة مطمئنة, فالروح الإنسانية تتعرض في الحياة الدنيا إلى الكثير من الملوّثات التي تسلخها وتفصلها عن الفطرة الصافية التي فطرها الله عليها، فكان الصوم وسيلة في إرجاعها إلى ما يريد خالقها.‏

وفي الصوم يعتبر الصبر ومراقبة ومخالفة العادات السيئة، وجهاد النفس وغيرها من الموارد التي هي من هذا القبيل أموراً يجب أن يتحلى بها الصائم ليحصل على ملكة التقوى وحماية النفس والروح…‏

ومن البديهي أن مفهوم التقوى، والثمرة الغالية لفريضة الصوم، ليس محدداً ضمن دائرة العبادات والمحرّمات، بل إنه مفهوم واسع وشامل لجميع نواحي الإنسان الذي تنوّر قلبه بنور التكاليف الشرعية من العبادات والمعاملات والقضايا الاجتماعية والسياسية التي من خلالها تبنى الشخصية الاسلامية البناء الصحيح، وذلك بفعل آثار التقوى التي هي ثمرة الصوم الحقيقي.‏

ومن خلال مجموع ما ورد من أحاديث وروايات نكتشف الأبعاد الأخرى للصوم التي تتعدى الغاية منه من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة بحيث يستطيع الصائم تحصيل ما يساعده لتجاوزه مصاعب السؤال يوم القيامة، والعبور إلى جنان الخلد. وإذا كان هناك من أسئلة تطرح نفسها أمام الإنسان ليفهم أسباب التشريع والحكمة التي من أجلها كان الصوم، فإن السؤال الأهم في هذا المضمار هو لماذا كانت العلة من الصوم هي "التقوى"؟‏

والجواب: هو أننا مع إدراكنا ووصولنا لمعرفة حقيقة "التقوى" تزول لدينا كل أسباب التعجب، لأن التقوى هي الحجر الأساس في عملية البناء الروحي الذي يهدف من خلاله الإنسان الارتباط بخالقه، ومع تحصيله لملكة التقوى يستطيع هذا الإنسان الانتصار على الذات والنفس الأمارة بالسوء، ولا يخشى بعد ذلك الضلال والانحراف.‏

فقد عرّف العلماء وأشاروا إلى حقيقة "التقوى" بأنها مشتقة من الوقاية، أي الحفظ والصيانة، وفي عُرف الشرع، التقوى: حفظ النفس عمّا يؤثم، و"كمال التقوى" اجتناب المشتبهات، وهي بعبارة أخرى جهاز الكبح الداخلي، ومتى ما قوي هذا الجهاز في داخل الإنسان فإنّه يستطيع الوصول بسرعة فائقة إلى أسباب السعادة في الدنيا والآخرة. ولهذا السبب وصف أمير المؤمنين الإمام علي (ع) التقوى بأنها الحصن الذي يقي الإنسان أخطار الانزلاق فقال: "اعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز".‏

وفي النصوص الدينية تشبيهات كثيرة تجسّم حالة التقوى، منها ما ورد عن الإمام علي (ع) حيث يقول:‏

"ألا وإن التقوى مطايا ذُلل، حُمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة".‏

وعنه (ع) قال: "ان تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتيق من كل ملكة، ونجاة من كل ملكة".‏

وحول هذا المضمون للعلة والغاية التي من أجلها فرض الله تبارك وتعالى الصوم على عباده، والتي تعكس البعد الروحي والمعنوي للصوم وأثره التربوي على الروح ونجاتها من الهلكات، وتطهيرها من الأوساخ والأدران التي علقت بها، ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال:‏

"ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتساباً وإيماناً إلا أوجب الله تبارك وتعالى له سبع خصال:‏

أولها: يذوب الحرام من جسده.‏

والثانية: يقرب من رحمة الله عزّ وجلّ.‏

والثالثة: يكون قد كفر خطيئة آدم أبيه (ع).‏

والرابعة: يهوّن عليه سكرات الموت.‏

والخامسة: أمان من الجوع والعطش يوم القيامة.‏

والسادسة: يعطيه الله براءة من النار.‏

والسابعة: يطعمه الله عز وجل من طيبات الجنة.‏

وما هذه الخصال الواردة في الحديث إلا نفحات رحمانية أفاضها الله تعالى على عباده الصائمين في هذا الشهر الكريم، الذي أراده الله تعالى أن يكون شهراً للخير والبركة والرحمة والمغفرة، ولا ريب بأنّ هذه الخصال إنما تتحقق عبر التقوى، وصفاء النفس، ونقاء الروح.‏

الشيخ خليل رزق‏

العهد الثقافي/ العدد 1183ـ 6 تشرين الأول 2006‏

2006-10-06