ارشيف من : 2005-2008
دروس من بدر الكبرى

أسس فقهية، وقادتها كانوا بالأعم الأغلب من أهل الدنيا ويعشقون الحكم والتوسع، فجاءت حروبهم لحماية عروشهم وإرضاء نزواتهم، ولم يكن فعلهم بغير المسلمين أشد فظاعة من فعلهم بالمسلمين إذا ما شنّوا عليهم حرباً.
وتكاد تنحصر دائرة المعارك والحروب التي يمكن الرجوع إليها واستنباط المواقف الشرعية والقيم الإسلامية بتلك التي قادها رسول الله(ص)، مخططاً وموجهاً ومصححاً وممضياً، فهو المعصوم والمسدد والحكيم. ويتبع ذلك ما حصل بقيادة الأئمة من أهل بيت الهدى وهو محدود. طبعاً بعد تحقيق النص التاريخي وتوثيق النقل والتأكد من صحة المنقول.
فيما يلي سأتناول بعض المواقف في معركة بدر الكبرى والتي تصلح أن تكون دروساً على مر التاريخ:
أولاً: تدخل معركة بدر في سياق المخططات الدفاعية التي بدأ رسول الله(ص) بوضعها منذ الأيام الأولى لهجرته إلى المدينة، واتخذ بعضها شكل السرايا الاستطلاعية أو الاعتراضية، ولم تكن تهدف ابتداءً للتحرش والاستفزاز، بل جاءت لمقابلة الحصار والمضايقة وسياسة الترهيب التي اعتمدتها قريش تجاه المسلمين في مكة وعند الهجرة وبعدها، وكان لهذه السياسة أثرها البليغ في إحجام الكثير من الناس عن الدخول إلى الإسلام أو بناء علاقات طبيعية مع الرسول(ص). وكنا قد تناولنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في مقالات سابقة.
ويكفينا شاهداً على هذه النقطة ما أورده الواقدي في كتاب المغازي (1/52) عن حكيم بن حزام أنه قال: "ولقيني عتبة بن ربيعة (أي في بدر) فقال: يا أبا خالد، ما أعلم أحداً يسير أعجب من سيرنا إن عيرنا قد نجت، وإنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغياً عليهم".
ثانياً: لقد حرص رسول الله(ص) على استشارة قومه وأصحابه قبل الانطلاق إلى بدر، وذلك بعد أن بلغه خروج قريش من مكة، ويذكر المؤرخون تفاصيل ما أجاب به الصحابة، حيث قام ثلة من المهاجرين وأكدوا جهوزيتهم، لكن رسول الله(ص) ظل يقول: "أشيروا عليّ أيها الناس"، فظنّ الأنصار أنه يقصدهم بذلك، حيث أنهم كانوا بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم، والموقف حساس، فقام سعد بن معاذ وتحدّث باسم الأنصار وأكد على الإيمان والتصديق، وعلى العهود والمواثيق، وجدّد الاستعداد للمضي مع الرسول(ص) حيث يرى "لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ...".
السؤال الذي يُطرح: لماذا استشار الرسول(ص) قومه وأصحابه؟ هل كان بحاجة إلى رأيهم لتحديد الصواب؟!
والجواب: إنّ الرسول(ص) لم يكن على المستوى الشخصي بحاجة إلى ترشيد رأيه، وهو المعصوم المسدّد بالوحي، ولقد بيّن لأصحابه بعد أن استمع إليهم وعزم على المسير أن الله وعده إحدى الطائفتين وأراهم مصارع الأعداء ووعدهم النصر، لكنه استشار قومه لتحقيق أهداف أخرى أهمها:
أـ أراد أن يمتحن نياتهم ويُظهر ما بأنفسهم، ويسمع منهم ما يؤكد التزامهم بالمواثيق والعهود، خاصة في مثل هذا الموقف الذي يحمل من الجدية ما يختلف عن ظروف الأمن والاستقرار.
ب ـ من الناحية السياسية، الاستشارة تدفع المشير إلى تحمّل المسؤولية عن النتائج بشكل أكبر، لأنه يرى نفسه شريكاً في القرار، وبناءً عليه يتبنى القرار ويتحمس له ويصبح أكثر حرصاً على النجاح والفوز.
ج ـ الاستشارة في مثل هذه المواقف عملية تدريب تجعل المستشارين يجدّون في التفكير والتحليل والتأمل والوصول إلى الرأي الأصوب، وتعالج بعض الآراء المخالفة التي تخضع للنقد أو يظهر ضعفها وهشاشتها من خلال المقارنة بآراء الآخرين.
د ـ الاستشارة عمل تربوي يعتمد طريقة التربية بالقدوة، فإذا كان القائد المعصوم المسدّد بالوحي لا يستبد برأي، ولا يعزم قبل أن يستشير، فالأولى بغير المعصوم والمعرّض للخطأ أن يفعل ذلك، فضلاً عن درس التواضع الذي تكرسه الاستشارة.
ومن الجدير بالذكر أن رسول الله(ص) كان يدأب على استشارة قومه كلما أراد الخروج إلى قتال، وربما عمل بالخيار الذي يجتمع عليه الناس (طبعاً في الشؤون التدبيرية) حتى عندما يرى الرسول(ص) أنّ الخيار الآخر أصوب أو أقل كلفة، للأسباب المتقدمة، والتي تشكّل مصلحة أهم في نظر الرسول(ص) فيجوز أن يتحمل الناس بعض النتائج مقابلها.
ثالثاً: عنصر المدد الغيبي، الذي ظهر جلياً في معركة بدر، وقد أظهره القرآن الكريم بالتنصيص عليه فقال: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين" الأنفال/9.
والمدد الإلهي الغيبي ليس محصوراً بمعركة بدر، بل هو أصل يتكرر كلما تكررت شروطه، وهي التي عبّرت عنها الآية الأخرى: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين. وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" آل عمران/123-126.
فالاتكال الصادق على الله تعالى والاتصاف بالتقوى والصبر والثبات في مواجهة العدو، بعد أن تكون المعركة محقة ليصدق عليها أنها في سبيل الله، كل ذلك يشكّل موضوعاً للمدد الغيبي الذي يتجلى في إدخال السكينة إلى قلوب المجاهدين وأهلهم وقومهم، وتسديد الرمية، والتوفيق إلى الصواب، وتثبيت الأقدام، وتيسير الأسباب بما فيها وسائل القتال وفاعليتها، وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وزلزلة أقدامهم وزرع القلق في نفوسهم ما يساهم في انهزامهم.
هذا العنصر لمسناه في المعركة الأخيرة في مواجهة العدوان الصهيوني على قرانا وشعبنا وأمتنا، وقد رأينا جميعاً حالة الثبات لدى المجاهدين التي أدهشت العالم، والسكينة التي ألقيت في قلوب المؤمنين فجعلتهم أقدر على تحمّل المصائب والبلاءات، فخرجوا من بين الركام بمواقف أشد صلابة، وأسقطوا بها رهانات العدو على زرع الشقاق بين المقاومة وجمهورها.
رابعاً: عدم الاتكال على القوة والعدد والعدة، وإن كان الواجب أن يعمل على إعدادها إعداداً جدّياً، فالقوة مهما بلغت تبقى وسيلة وأداة تفتقر إلى التسديد والتوفيق، ولذا كان لا بد من الاتكال التام على الله. في بدر كان المسلمون قلّة في العدد، قلّة في العدة والسلاح، فقد رووا أنه لم يكن لديهم سوى فرسين وسبعين من الإبل، وكان العدو ثلاثة أضعافهم من حيث العدد، مدجّجين بالسلاح مع كل الإمكانيات، ومع ذلك نصر الله تعالى المؤمنين، لأنهم كانوا على مستوى عالٍ من اليقين، وعلى حق، وتوكلوا على الله فاستغاثوا به، وابتهلوا إليه، على خلاف أعدائهم الذين جاؤوا على شك يتباهون بقوتهم، يتغطرسون ويستهينون بضعاف المسلمين، فذاقوا الذل والهوان على أيديهم، وردّهم الله مهزومين مخزيين.
خامساً: إقامة الحجة قبل القتال، لقد حرص رسول الله(ص) على أن لا يكون البادئ بالقتال، فقد أرسل إلى القوم طالباً منهم العودة، وأنه لا يحبّ أن يكون بينهم قتال (راجع الواقدي: المغازي1/61) وهذه سيرة الرسول(ص) في معاركه التي خاضها، وسيرة علي(ع) أيضاً في القتال: "إني أكره أن أبدأهم بقتال"، برغم أن العدو دائماً هو المعتدي، إلا أن بذل الوسع في إقامة الحجة حتى الفرصة الأخيرة لم يكن يفوته، ثم إذا بدأ القتال أذاقهم البأس.
هذه السياسة لا تختلف في حالتي الضعف والقوة، فهي تنطلق من الحرص على أن يرتدع العدو عن غيّه بأي وسيلة ممكنة قبل القتال، ولا تنطلق من الحرص على الذات.
هذا غيض من فيض بدر، المعركة التي أسست لما بعدها من المعارك، والتي أدخلت عناصر جديدة في حسابات التوازن القتالي، حيث كان للإيمان واليقين والصبر والتقوى والاتكال على الله ودعاء الرسول(ص) واستغاثة المؤمنين بالله تعالى، الأثر المباشر في رجحان كفة أهل الإيمان ونزول النصر، وفي المقابل هزيمة العدو برغم رجحان العدد والعدة والقدرات القتالية.
الشيخ مصطفى قصير
العهد الثقافي/ العدد 1183ـ 6 تشرين الاول 2006