ارشيف من : 2005-2008

انسحاب إسرائيلي هادئ بدلالات استراتيجية صاخبة

انسحاب إسرائيلي هادئ بدلالات استراتيجية صاخبة

الحالي. ومر الانسحاب في ظل انشغال سياسي وشعبي موزع بين اعادة البناء... واحتدام السجال السياسي الداخلي حول تشكيل حكومة وحدة وطنية... وتدفق قوات الامم المتحدة بالتزامن مع محاولة تسلل الى مواقع وصلاحيات أوسع... ومن الواجب إعطاء هذا الحدث بعضا من حقه، على الاقل، عبر التوقف عند الاجواء التي تم في ظلها والابعاد والدلالات الكامنة فيه. الا ان هذه المهمة تستوجب بالضرورة أن تكون نقطة الانطلاق عند السياق السياسي الذي أملى على كل من العدو الصهيوني والادارة الاميركية القرار بشن الحرب والاهداف التي سعى اليها تمهيدا لوضع اليد على حقيقة المعاني الكامنة في هذا الانسحاب برغم هدوئه.‏

بعدما وصل المخطط الاميركي في لبنان ومنه الى طريق مسدود جراء صلابة المقاومة وحكمة قيادتها والتفاف الجماهير من حولها، وبعدما استنفدت قوى 14 شباط ما تملكه من اوراق سياسية لتجريد حزب الله من سلاحه وتبلوره كقوة رئيسية رادعة ومدافعة عن لبنان في مواجهة أي عدوان اسرائيلي، برزت قناعة لدى الادارة الاميركية بالإعداد لشن حربها الثالثة (بعد افغانستان والعراق) لكن هذه المرة بأيد إسرائيلية استكمالا لمخطط الهيمنة على المنطقة ولإزالة السد الذي يقف حائلا امام قوى الاكثرية النيابية لاستكمال مشروعها الانقلابي على خيار لبنان الوطني والعروبي. وهكذا بدأ الإعداد على كل المستويات تمهيدا لإرساء موازين قوى جديدة وبلورة معادلات بديلة وصياغة واقع سياسي يجسد طموحات الادارة الاميركية في لبنان...‏

ونُفذت عملية الأسر الموعودة في 12 تموز التي أدت إلى اسر جنديين إسرائيليين ومقتل ثمانية آخرين.. ما دفع إلى تسريع تنفيذ الذي كان يُعد له، وبدأت "إسرائيل" شن حربها التي تدحرجت بسرعة قياسية من رد فعل انتقامي على العملية الى اتخاذ قرار سياسي للبدء بشن الحرب، وكان واضحا ومباشرا الدور الاميركي في اصل الاعداد للحرب وقرار شنها واستمرارها والتحكم بإيقاعاتها. ومن هنا تم رفع سقف الاهداف الى المستوى الملائم للرؤية التي انطلق منها قرار الحرب والسياق الاستراتيجي المتصلة به. واعلن رئيس حكومة العدو ايهود اولمرت في خطاب له في 19 تموز ان "إسرائيل" ستخوض الحرب ضد حزب الله مهما تطلب ذلك من وقت، من اجل اعادة الجنود المختطفين وتطبيق القرار 1559 بشكل كامل وتنفيذ المخطط الذي تم تحديده في قمة الدول الثماني الكبرى: اعادة الجنود دون قيد او شرط، تجريد حزب الله من سلاحه، وقف التهديد الصاروخي على "إسرائيل" ونشر الجيش اللبناني على امتداد الحدود مع "إسرائيل"، وبسط سيادة الحكومة اللبنانية على كامل الاراضي اللبنانية".‏

ان طابع وماهية الانسحاب الذي تحقق يمكن تحديده عبر قراءة الاجواء التي نُفذ في ظلها ومقارنته مع الاهداف الاسرائيلية الاميركية المنشودة والاجواء البديلة التي كان يعد لها.‏

أي معنى للانسحاب دون تحقيق الهدف المباشر للحرب وهو اطلاق سراح الجنديين دون قيد او شرط؟ ولماذا لم تواصل "إسرائيل" حربها كما تعهد اولمرت ("إسرائيل" ستخوض الحرب ضد حزب الله مهما تطلب ذلك من وقت) الى حين تحقيق هذا الهدف؟ للإجابة عن هذا السؤال نقتبس عن اولمرت نفسه خلال مقابلة له مع القناة الثانية في التلفزيون الاسرائيلي عشية رأس السنة العبرية عندما قال مجيبا عن سؤال بهذا الخصوص، انه أوقف القتال من دون استعادة الجنديين للحؤول دون سقوط عشرات الضحايا الاسرائيليين. أي بمعنى آخر بعد ان بلغت "إسرائيل" مرحلة اليأس من امكانية خضوع المقاومة، وبعدما لمس بشكل جلي ان عناده لن يؤدي سوى الى المزيد من الخسائر الاسرائيلية العبثية. وعليه هل يبقى لبس امام هذا الاعتراف الرسمي الاسرائيلي من اعلى الهرم السياسي حول طابع هذا الانسحاب وماهيته؟ ولو ان هذا الانسحاب تم في ظل تحقيق الهدف المباشر للحرب، أي صورة وأي ماهية له كانت ستُطبع في اذهان الرأي العام الاسرائيلي واللبناني والعربي والعالمي؟‏

هل جرى الانسحاب بعد تحقيق الهدف الاستراتيجي للحرب، تجريد حزب الله من سلاحه؟‏

بعيداً عن الرهانات التي استُند اليها والتكتيكات التي اعتُمدت لتحقيق هذا الهدف، الحقيقة الماثلة ان القتال توقف وبقي سلاح حزب الله، كماً ونوعاً وانتشاراً بما يُمكنه من مواصلة التصدي مهما اتسع نطاق الحرب او امتد او حتى تكرر... ايضا حتى الاهداف التي تم تخفيض سقفها خلال الحرب، بعدما اتضح استحالة السقف الاقصى منها، أي تجريد منطقة جنوب الليطاني من وجود حزب الله وسلاحه؟ والتي بلغت الضغوطات العسكرية والسياسية من الخارج والداخل، الذروة. أين هي من الواقع، فحزب الله كان وما زال في جنوب الليطاني بكامل جهوزيته، بكل ما لهذه الجهوزية من معان ومقومات، وبالتالي فالسؤال الذي ينبغي ان يطرحه كل منا على نفسه، هو أي فرق بين انسحاب نُفذ في ظل هذا الواقع الذي تم فيه؟ وبين صورة الانسحاب لو انه تم في ظل واقع مغاير، أي في ظل تجريد المقاومة من سلاحها، او حتى تجريد منطقة جنوب الليطاني من سلاح حزب الله؟‏

أيضا توقف القتال وصواريخ المقاومة بقيت حتى اليوم الأخير تتساقط على شمال الكيان الاسرائيلي، مستوطنات ومواقع عسكرية ومنشآت، واعترفت "إسرائيل" بسقوط اكثر من 250 صاروخ في اليوم الاخير من القتال، برغم ان "وقف التهديد الصاروخي" كان احد الاهداف الرئيسية لهذه الحرب؟‏

في هذا السياق ينبغي الإشارة الى ان العدو يعتبر امتلاك حزب الله لقدرات صاروخية تطال اعماق العمق الاسرائيلي وصولا الى تل ابيب، تهديدا استراتيجيا لأمن كيانه، لما يمثله من قوة ردع ودفاع وعقاب على أي اعتداء. وبرغم ان ازالة هذا التهديد الصاروخي كانت هدفا مركزيا في الحرب، وكان لها دور رئيسي في بلورة وصياغة هذا الانتصار، الا ان المشهد الذي توقف في ظله القتال يمكن اختصاره بالصورة التالية: ان الحرب بدأت في ظل تقديرات اسرائيلية عن وجود 13000 صاروخ لدى المقاومة، فإذا بالقوات الاسرائيلية تنسحب في ظل امتلاك المقاومة أكثر من 20000 صاروخ. وبالقياس الى موقف سابق لسماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله فإن معنى هذا الكلام لا يعني ان المقاومة تمتلك 21000 صاروخ، والبقية عند القارئ.‏

أما بخصوص الهدفين الأخيرين المرتبطين بنشر الجيش اللبناني وبسط الدولة سيادتها على منطقة الحدود، وفقا لتعبير اولمرت، يكفي التذكير ان هذا المطلب كان وما زال قبل الحرب وبعدها على اساس ان يُنفذ في ظل نزع سلاح المقاومة، وأن يكون انتشار الجيش بديلا عن جهوزية المقاومة واستعدادها، هذا ان لم يكن، كما كان مخططا له، الجيش أداة لتنفيذ هذا المخطط. لكن الواقع الراهن هو ان انتشار الجيش تم في ظل وجود وانتشار المقاومة غير المرئي، كما كان عليه قبل 12 تموز. وضمن تفاهم وتنسيق مع قيادة الجيش اللبناني.‏

وهكذا يظهر بما لا مجال للوهم أن هذا الانسحاب الاسرائيلي تم في ظل معادلة ما زالت المقاومة بموجبها تحتفظ بقدراتها وجهوزيتها واستعداداتها لمواجهة أي اعتداء ضمن اطار تشخيصها للمصلحة الوطنية. وفي هذا السياق هناك سؤال اساسي يفرض نفسه على كل مراقب، لماذا لم تقدم "إسرائيل"، كما فعلت في مناطق محتلة اخرى، وكما حاولت ان تفعل سابقا في لبنان، على ابتزاز لبنان لمقايضة انسحابها بتحقيق اهدافها او بعض منها؟ ألا يعني ذلك ان يد المقاومة هي العليا، وأنه لولا معرفة "إسرائيل" التامة بأن موقفها هذا لن يحقق المؤمل منه فضلا عن انه سينعكس عليها مزيدا من الخسائر لأن جنودها كانوا سيتحولون عاجلا ام اجلا اهدافا سهلة لنيران المجاهدين.‏

جهاد حيدر‏

الانتقاد/ العدد 1183ـ 6 تشرين الأول 2006‏

2006-10-06