ارشيف من : 2005-2008
استراتيجية أميركية جديدة للمنطقة: اسرائيل وأنظمة "الاعتدال" في مواجهة محور المقاومة

طرح هذا السؤال مستغرباً بل ومستهجناً، لكن قبل اصدار احكام نهائية دعونا نتوقف حول دوافعه.
من يتأمل في مجمل المواقف الاميركية بدءاً من الرئيس بوش ومروراً بوزير خارجيته رايس ونوابها ومساعديها وغيرهم من المسؤولين الأمنيين، والمتعلقة بنتائج الحرب الاسرائيلية على لبنان، يجد أنها التقت جميعاً حول موقفين متفارقين:
الأول: تأكيد أن حزب الله والمقاومة في لبنان وكل من آزرهم وقدم لهم الدعم والرعاية والاحتضان لم يربحوا الحرب، وإنما مُنيوا بهزيمة ساحقة ان لم تبن معالمها الآن فستبين لاحقاً، وأن المطلوب هو تأكيد هذا المعنى من قبل كل الحلفاء. وبناء عليه التعامل مع المقاومة من موقع المنهزم، ومن موقع الذي يفترض ان يُدان ويدفَّع الثمن.
الثاني: التشديد على منع حزب الله من تأكيد انتصاره وتعميمه واستثمار نتائجه، ولا ندري هنا كيف يمكن تعميم ما ليس موجوداً واستثمار الفراغ!
في مقابل هذا كله، لنتأمل معاً ما جاءت رايس لتقوم به في المنطقة، ولنرَ هل هو ينسجم فعلياً مع حقيقة كون حزب الله ومحور المقاومة في المنطقة انهزم، أم العكس هو الصحيح؟ ماذا تقول رايس حول الأجندة الاميركية الجديدة للمنطقة؟
أولاً: هي تحاول أن تقدم تقسيماً جديداً للمنطقة يستند كما العادة على مفردات اعلانية تسهل عملية تسويقها.. فبعد ان كانت السيادة لمقولة الديمقراطية في الخطاب السياسي الاميركي، والتي شكلت ليس احد مفاتيح التغيير في المنطقة بقدر ما شكلت من جهة أخرى إحدى أدوات الضغط على أنظمة المنطقة لحملها على المزيد من الانصياع، وأحد مفاتيح صندوق "باندورا" الانقسامات والصراعات الدموية التي تتغذى على الخلافات الإتنية والطائفية والمذهبية.
بعد أن كانت السيادة لهذه المقولة أصبحنا اليوم أمام مفردات جديدة: قوى الاعتدال في مواجهة قوى التطرف، وقوى البناء في مواجهة قوى التدمير.
المسألة هنا ليست مجرد لعبة مفردات بقدر ما هي لعبة تحوير في السياسات: لم يعد المطلوب اليوم أميركياً تغيير الأنظمة كمدخل لمواجهة "الارهاب"، بل بات المطلوب حماية الأنظمة سوى القوية منها، مقابل اصطفافها في محور الصراعات الجديدة المطلوبة أميركياً. لقد جرى تحوير واسع في جدول الأعداء، لم يعد الارهاب بما هو مفهوم غائم وضبابي هو الأصل، لم يعد الكيان الاسرائيلي عدواً، بل أكثر من ذلك بات الحليف الموضوعي لأنظمة الاعتدال، ما دام اليوم يجمعهم التوافق على عدو واحد مخيف هو ايران.. ثمة اعادة ترتيب للأعداء، لا بل ثمة حذف وإسقاط نهائي لبعضهم للتركيز على عدو واحد: ايران + سوريا + حماس + حزب الله. باختصار جبهة المقاومة للمشروع الاميركي ـ الاسرائيلي في المنطقة.
في هذا المناخ ثمة إعادة صياغة اميركية لانتصار المقاومة في لبنان: حسناً المقاومة انتصرت، لكن من الذي انتصر وعلى من؟ بما أن المقاومة هي "تطرف"، وهي بالتالي خارج مصفوفة "الاعتدال"، فهذا يعني ضمناً ان انتصارها لم يعد انتصاراً عربياً على الكيان الاسرائيلي، بقدر ما هو انتصار ايراني ـ مذهبي على العرب.
المعادلة خطرة بما يكفي، لأنه يراد لها ان تنتج عصبيتين حادتين في مواجهة قوى الممانعة والمقاومة: عصبية قومية وأخرى مذهبية، والدافع وراء ذلك أكثر من واضح، فالمطلوب كسر مناخ الوحدة الاسلامية الذي شاع إبان الحرب، وإعادة استدرار عداوات الماضي لمنع تطبيع أي علاقات ايجابية بين ايران من جهة وشعوب المنطقة من جهة أخرى.
ثانياً: لا يفوت رايس تأكيد أن المهمات العاجلة هي:
ـ مواجهة ايران وسوريا.
ـ التصدي لحزب الله وحماس.
وأن الظروف اليوم مهيأة لإنتاج استراتيجية جديدة تنهض على ركيزتين: الكيان الاسرائيلي وحلف "المعتدلين" من الأنظمة العربية وقاعدته: السعودية ومصر والأردن. كما لا يفوت رايس أيضاً لفت الانتباه الى ضرورة أن يوفر هؤلاء جميعاً الدعم اللازم لحلفائهم الضعاف: حكومة السنيورة في لبنان وأبو مازن في فلسطين.
خلاصة القول هنا، هل ما تقدم يشير الى سلوك منتصر أم خائف! من الواضح أن كل هذا الاهتمام الاميركي بالمنطقة، انما هو لإسقاط مفاعيل الانتصار التاريخي والاستراتيجي الذي حدث في لبنان واحتواء آثاره.
بكلمة أخرى، ان مجمل السلوك الاميركي هو عبارة عن نجدة أميركية: لإيقاف الانظمة العربية التي وجدت نفسها في حالة تهديد جدي هذه المرة على رجلها، اذ لأول مرة نجد في مقابلها وعلى نحو متوازن، ارادة شعبية عارمة على النقيض تماماً من خياراتها السياسية.
لتوفير شبكة الأمان اللازمة لحلفائها الضعاف في المنطقة من خلال توفير كل الدعم الممكن، مالياً وسياسياً وعسكرياً أيضاً.
ولا يخفى أن العصا السحرية الاميركية هنا هي التخويف ثم التخويف: التخويف من ايران وسوريا، التخويف من حالة المقاومة اذا ما انتصرت.. إلخ. الترجمة الاميركية لهذه السياسة في لبنان واضحة: إقفال مسألة التغيير السياسي على صعيد الحكومة، ما يعني عملياً دفع الأمور الى حدود الانفجار السياسي الداخلي، فهل سيعي فريق الأكثرية الحاكمة وفريق 14 شباط مسؤوليتهم الوطنية، ويتحرروا من الوصاية الاميركية لمصلحة إنتاج توافق وطني يؤسس لبناء دولة حقيقية، أم سيبقون مصرّين على هوس السلطة وجشعها فيأخذوا البلاد والعباد الى حيث لا يُحمد عقباه.
مصطفى الحاج علي
الانتقاد/ العدد 1183ـ 6 تشرين الأول 2006