ارشيف من : 2005-2008

الهجرة أمام جدران الديمقراطية

الهجرة أمام جدران الديمقراطية

ذلك الجدار الذي دق أجراس الانهيار السوفياتي، فالغربيون عوّدوا العالم خلال العقود الماضية على خطاب الانفتاح الذي ساد مع التبشير بالعولمة والذي وجد تعبيره المقونن في تشريعات منظمة التجارة العالمية التي فرضت مبادئ كسر الحواجز وتعميم حرية انتقال السلع والخدمات والأشخاص، في إطار السعي لترسيخ ما يسمى بـ"القرية العالمية".‏

لكن الانفتاح والحرية هما تبع لازدواجية المعايير حيناً والكذب الصريح في أغلب الأحيان من طرف واحد، أي من الطرف الملائم لمشاريع الهيمنة، سواء تعلق الأمر بالحمائية التجارية والاقتصادية أو بالملف الزراعي والمساعدات الزراعية وإعادة الهيكلة وإغراق الأسواق.. وصولاً إلى مشكلة الهجرة.‏

والمعروف بالنسبة الى المشكلة الأخيرة أن بلدان الغرب احتاجت ولا تزال إلى البلدان الفقيرة في العالم الثالث كأسواق ومصادر للمواد الأولية، وكمصادر للأيدي العاملة وللمجندين ممن كانوا يضعونهم على خطوط المواجهة الأولى في حروبهم الاستعمارية والتوسعية. وقد وضعت القوانين والتشريعات لتنظيم وضبط "استيراد الأشخاص".‏

لكن ذلك لم يحل في ظل التحايل الرأسمالي، دون ترعرع الهجرة السرية تحت إشراف أصحاب المصالح والنفوذ في الغرب ممن شاؤوا التهرب ـ بين أغراض أخرى ـ من الالتزامات المالية التي يفرضها استخدام المهاجرين الشرعيين.‏

وقد أسهمت المؤامرة التي أنتجت بالتواطؤ مع الحكام المحليين، حالة التسيب وانسداد الآفاق التي تعيشها معظم بلدان العالم الثالث، أسهمت في نشوء هذا الهروع البشري الكاسح نحو بلدان الشمال بحثاً عن لقمة العيش أو ـ بالنسبة للميسورين بمن فيهم أولئك الذين نهبوا خيرات شعوبهم ـ بحثاً عن راحة البال والتنعم بخيرات الاستهلاك. ولا نعلم ما إذا كانت مشكلة الهجرة السرية مضرة إلى الحد الذي يتكلم عنه الغربيون، ولكن الأكيد أنها تحتل إلى جانب الخطاب التحريضي على ما يسمى بالإرهاب ومنابت الإرهاب بالمعنى الواسع والغائم، الحيز الأكبر من اهتمامات وسائل الإعلام، بما في ذلك النشرات والبرامج البعيدة الصلة عن السياسة ومشكلات المجتمع.‏

ولما كانت الانتخابات في طليعة محركات اللعبة السياسية في الغرب، فإن كثرتها ما بين محلية ونيابية ورئاسية تجعل من مشكلة الهجرة مادة دائمة في الحملات الانتخابية التي يهتم فيها المرشحون بإظهار وطنيتهم من خلال الهجوم على "الآخر" الذي حاز صفة "الجحيم" حتى عند كبار المفكرين الغربيين القدماء والمعاصرين.‏

ذلكم هو شأن الساعة في الولايات المتحدة.‏

انتخابات تجديد الكونغرس ستجري بعد أسابيع قليلة، وخطاب التحريض على الإرهاب البعيد جغرافياً صار بمثابة السحر، حيث ينقلب على الساحر.‏

لكن هوس استمداد القوة الانتخابية من "وطنية" الأميركيين جعل الأوساط الأكثر يمينية في الحزب الجمهوري تراهن على فائدة الإجراءات العدائية بحق أقرب الأقربين: المكسيكيين وغيرهم من الأميركيين اللاتين.‏

فعلى التوالي أقر مجلسا النواب والشيوخ مشروعاً لبناء جدار على الحدود الجنوبية بطول 1200 كلم من أصل الطول الإجمالي لهذه الحدود البالغ 3200 كلم، بهدف الحد من الهجرة السرية.‏

التكاليف ينتظر أن تصل إلى حدود سبعة مليارات دولار عُجِّل منها مبلغ مليار و200 مليون دولار دفعةً أولى، إضافة إلى عدة مئات من ملايين الدولارات التي ستنفق على 1500 شرطي إضافي لمراقبة الحدود، وعلى بناء معتقلات إضافية تتسع لاحتجاز سبعة آلاف مهاجر غير شرعي ممن يُلقى القبض عليهم أثناء التسلل.‏

وقد أثار المشروع استنكار الديمقراطيين الذين وصفوه بأنه مناورة انتخابية مع التركيز على عدم ضرورته، لأن نصف المهاجرين غير الشرعيين إنما يُقبض عليهم سنوياً داخل الولايات المتحدة بعد انتهاء جوازات إقامتهم.‏

وقد تعالت الشكوى أيضاً من ضخامة التكلفة المالية، لكن أحداً لم يشر إلى احتمال كون المشروع برمته نوعاً من "تنفيعة استثمارية" لبعض الشركات التي يمتلكها أركان الإدارة الأميركية، شأن الكثير من التنفيعات المماثلة التي تلتهم الأموال العامة.‏

أما التداعيات السلبية للمشروع على دعاوى الانفتاح وعلى العلاقات الثنائية بين واشنطن ونيو مكسيكو فلم يتكلم عنها أحد في الولايات المتحدة، بل تُركت للمسؤولين المكسيكيين الذين أعربوا عن سخطهم واستيائهم وصولاً إلى التذكير بأن المهاجرين ليسوا إرهابيين، وإلى مقارنة عقدها الرئيس المكسيكي المنتهية ولايته والمقرب جداً من واشنطن فنسانتي فوكس، بين الجدار الأميركي الذي سمّاه "جدار العار"، وجدار برلين.‏

أما الرئيس الجديد الذي سيستلم منصبه في بداية العام المقبل بعد فوزه الصعب والمثير للجدل، فيليبي كالديرون، فكان أكثر هدوءاً، ربما لأنه لا يريد مجافاة الأميركيين وهو المجفوّ سلفاً من شعبه الذي سيزيده الجدار عداءً لأميركا ولحلفائها الداخليين الذين يعانون من اهتزاز فعلي جراء تصاعد شعبية اليسار.‏

وذلكم هو أيضاً شأن الساعة في أوروبا، حيث أثارت مشكلة المهاجرين غير الشرعيين اشتباكاً حقيقياً بين وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي، المستنفر للانتخابات الرئاسية تحت راية "تحقيق الأمن" ومكافحة الهجرة غير الشرعية، بما في ذلك طرد المهاجرين غير الشرعيين، ورئيس الوزراء الإسباني خوسيه ثاباتيرو الذي رد على انتقادات ساركوزي لسياسة التساهل التي تعتمدها إسبانيا، قائلاً ان مدريد ليس عليها أن تأخذ أقوال ساركوزي بعين الاعتبار بعد "ما رأيناه العام الماضي في ضواحي باريس"، في إشارة إلى الصدامات العنيفة التي جرت بين الشرطة الفرنسية وأبناء المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين.‏

وإذا كانت إسبانيا قد اعتمدت سياستها المتساهلة على ما يبدو بهدف الحصول على حصة وافية من المليار و800 مليون يورو التي خصصها الاتحاد الأوروبي لضبط حدوده الخارجية والجنوبية تحديداً، فإن الخلاف الفرنسي ـ الإسباني لم يحل دون اتفاق وزراء داخلية البلدان الأوروبية المتوسطية قبل أيام، على جملة إجراءات تهدف إلى منع تسرب المهاجرين غير الشرعيين، ومنها تعزيز الدوريات البحرية وإنشاء شبكة مشتركة لخفر السواحل وتطوير جهاز إنذار إلكتروني لرصد السفن بمجرد انطلاقها من الشواطئ الأفريقية، أي بكلمة: جدار بصورة مختلفة.‏

كلمة أخرى لا بد منها في ظل هذا الإقبال الغربي على بناء الجدران: الهروع البشري الضخم من بلدان العالم الثالث، وفي طليعته العالم العربي والإسلامي، إلى الغرب بحثاً عن لقمة العيش، يجب أن يتوقف أمام جدار يبنيه أبناء هذه البلدان، لا بالأسمنت والأسلاك الشائكة، بل بالعودة إلى البناء والعمل النظيف واستغلال القدرات المعطلة، حفظاً للكرامة والهوية المهدورتين على أرصفة الغرب.‏

عقيل الشيخ حسين‏

الانتقاد/ العدد 1183ـ 6 تشرين الاول 2006‏

2006-10-06