ارشيف من : 2005-2008

عجز أميركي عن مواجهة التحدي النووي الكوري الشمالي

عجز أميركي عن مواجهة التحدي النووي الكوري الشمالي

قبل معظم القوى الدولية المعنية من قريب أو بعيد، بما فيها الحليف الصيني ـ لاعتبارات تكتيكية على الأرجح ـ ترافقت مع تكهنات توقع بعضها ألا تقوم بيونغ يانغ بتلك التجربة، فيما لو قامت بها فعلاً، قبل مطلع العام القادم. لكن الفعل الكوري الشمالي سبق التكهنات والتوقعات وتم التفجير التجريبي، الذي رصدته مراكز مراقبة الزلازل في كوريا الجنوبية واليابان وروسيا والولايات المتحدة، صبيحة الاثنين الفائت (9/10/2006) بنجاح كبير، ودون حدوث أية تسربات مشعة، وذلك بفضل الحكمة والتكنولوجيا المحلية مئة بالمئة، على ما أكدته المصادر الكورية الشمالية في حديثها عما أسمته بـ"الحدث التاريخي الكبير".‏

وقد تم التفجير في نفق تحت الأرض وكانت قوته معادلة لقوة انفجار 550 طناً من الديناميت (أي أقل بعشرين مرة عن القنبلة التي ألقاها الأميركيون على هيروشيما، عام 1945، والتي بلغت قوتها 12 ألفاً و500 طن من الديناميت). لكن حجم الانفجار يظل هامشياً جداً بالقياس إلى ما يعنيه نجاح التفجير في لغة الجغرافيا السياسية في شبه الجزيرة الكورية وفي منطقة الشرق الأقصى، وخصوصاً أن هذا التفجير قد سبقته تجارب على صواريخ متوسطة وبعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية إلى الشواطئ الغربية للولايات المتحدة، ناهيكم عن اليابان وغيرها من حلفاء أميركا في المنطقة. فالواقع أن كوريا الشمالية لا تزال تعيش هاجس الحرب الكورية والغزو الأميركي، تحت علم الأمم المتحدة الذي حال دون توحيد شبه الجزيرة في ظل الشيوعية الزاحفة. كما أنها لا تزال تعيش التهديدات التي أطلقها الأميركيون في بداية الخمسينات بإلقاء القنابل الذرية على كوريا الشمالية، في وقت لم يكن الغبار الذري الذي تصاعد من أنقاض هيروشيما وناكازاغي قد انزاح بعد عن سماء المنطقة. والواقع أيضاً أن كوريا الشمالية، البلد الذي صنفه الرئيس كلينتون في جملة "الدول المارقة"، قبل أن يجعله الرئيس بوش في عداد بلدان "محور الشر"، تتجاور مع دول معادية ككوريا الجنوبية واليابان وتايوان والفيليبين، وهي دول تقوم فوق أراضيها قواعد عسكرية أميركية تضم ما يزيد على مئة ألف جندي مسلحين بأحدث الأعتدة، لا تزال تعيش هاجس الغزو الأميركي، بما في ذلك احتمال التعرض لهجمات نووية أميركية. وقد ازداد هذا الهاجس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وخلو الساحة الدولية للأميركيين، وخصوصاً بعد أن بدأت الولايات المتحدة بشن حروبها الاستباقية والوقائية في أفغانستان والعراق.‏

وكل ذلك، دفع كوريا الشمالية إلى تكثيف العمل، منذ الخمسينات، من أجل امتلاك السلاح النووي كرادع أساسي للنيات الامبريالية الأميركية، على ما تردده الدائرة السياسية في بيونغ يانغ. وبالطبع، تلقت كوريا في البداية مساعدات تقنية من روسيا والصين، وربما أيضاً من باكستان، ثم تمكنت من استخراج ما يكفي من البلوتونيوم، ثم اليورانيوم، لصنع ما يتراوح بين ستة وعشرة رؤوس نووية نقلتها، عنوة، إلى المرتبة الثامنة بين الدول التي تملك السلاح النووي رسمياً، والتي يتربع أكثرها على سدة القرار في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.‏

ويأتي تزامن التفجير النووي الكوري الشمالي مع اختيار وزير الخارجية الكوري الجنوبي، بان كي مون، لشغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة، مع نهاية ولاية كوفي آنان، مشبعاً بإيحاءات قد تلتقي مع مطالب بلدان كالبرازيل وفنزويلا للترشح لعضوية مجلس الأمن.‏

وكان من الطبيعي للتفجير النووي الكوري الشمالي أن يحدث ضجة عالمية بدأت في واشنطن ولندن وكوريا واليابان وامتدت إلى أوستراليا وروسيا والصين. والتقت معظم الآراء على إدانة التفجير واعتباره استفزازياً ومخلاً بأمن شبه الجزيرة الكورية والمنطقة. كما فرضت اليابان وكوريا الجنوبية عقوبات على بيونغ يانغ، وطلبت أوستراليا فرض المزيد من العقوبات المالية الدولية والأميركية. في حين طلبت عدة دول رداًً حاسماً من قبل مجلس الأمن، مع التنويه بالموقف الياباني الذي طالب بتدخل فوري تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة.‏

ومن الطبيعي، عندما تصل الأمور إلى مستوى التلويح بالقوة العسكرية، أن تتجه الأنظار نحو واشنطن. لكن الإشارات التي صدرت عن هذه الأخيرة لا تدل على وجود أولوية أميركية للرد العسكري. لا بل إن تصريحات المسؤولين والخبراء العسكريين الأميركيين تشف عن استبعاد إمكانية مثل هذا الرد. وقد ذهب بعض المحللين، على ما درجت عليه العادة عندما تلوح في الأفق بوادر الحرب، إلى حد إعداد بيانات بالقوى العسكرية التي يمتلكها الطرفان، الأميركي وحلفاؤه في المنطقة، والكوري الشمالي، ليخلصوا إلى نتائج أقرب إلى التشاؤم والخوف من التصعيد العسكري.‏

خلاصة تلك النتائج أن الجيوش الأميركية في المنطقة، من أساطيل وصواريخ عابرة وطائرات "بـ52"، لا تكفي، مع نحو 700 ألف جندي كوري جنوبي، لغزو كوريا الشمالية التي تمتلك مليوناً ومئتي ألف جندي مسلحين بـ11 ألف قطعة مدفعية وترسانة صواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، إضافة إلى الأسلحة غير التقليدية، النووية والكيميائية والجرثومية. كما أن أية حرب قد تندلع في المنطقة لن تحظى بموافقة البلدان المجاورة التي لن يكون بمقدورها استقبال ملايين النازحين. خيار قصف المفاعلات النووية الكورية الشمالية يظل ممكناً من الناحية الإجرائية، لكن خطر الإشعاعات على الدول المجاورة يحول دون هذه المجازفة. أما خيار الاستيلاء على الرؤوس النووية الكورية الشمالية، فهو أكبر الأمور المستحيلة، لأن أحداً لا يعلم مكان وجودها... إذاً، لا حرب في الأفق، بل عقوبات وعمل ديبلوماسي للعودة إلى المفاوضات السداسية حول البرنامج النووي الكوري الشمالي، وهي المفاوضات التي، إذا ما تمت، فإنها ستتم مع كوريا شمالية ذات أنياب نووية، لا مع كوريا شمالية تساوم من خلال امتلاكها مجرد برنامج نووي. وعلى افتراض إصرار الأميركيين على تجاهل التحدي الكوري الشمالي، بهدف التفرغ للشأن الشرق الأوسطي، فإن أغلب الظن أن بيونغ يانغ ستبادر إلى المزيد من التصعيد لأنها تعتبر أن بينها وبين واشنطن حساباً قديماً لم يحسم بالشكل المناسب في بداية الخمسينات. وأغلب الظن أن الولايات المتحدة المشتبكة حالياً في عدة جبهات في العالم قد بدأت تخسر على جميع هذه الجبهات، وأن خسارتها الكبرى في الشرق الأوسط ستفتح الآفاق واسعة أمام مناخات أفضل، لبناء علاقات دولية أفضل.‏

الانتقاد/ العدد1184 ـ 13 تشرين الاول/ اكتوبر2006‏

2006-10-13