ارشيف من : 2005-2008
روسيا وجورجيا: هل بدأ الهجوم الروسي المعاكس؟

العسكرية الروسية الموجودة على أراضيها.
وذلك بعد اتهامهم بالتجسس من قبل سلطات تبليسي. ولم يسهم الإفراج عن هؤلاء الضباط الذين لم يلبثوا أن غادروا جورجيا إلى روسيا في تخفيف حدة التوتر، حيث ردت روسيا بسلسلة إجراءات عقابية منها إقفال جميع طرق المواصلات بين البلدين ووقف التبادلات التجارية، إضافة إلى طرد عشرات الجورجيين من الأراضي الروسية، وإقفال العديد من المحلات التجارية والمطاعم التي يملكها جورجيون في موسكو ومدن روسية أخرى.
وفي هذه الأجواء غادر نحو مئتي روسي جورجيا خوفاً على حياتهم من تدابير انتقامية أو ردود فعل ممكنة في الشارع الجورجي. وكان من الطبيعي، في ظل الحرص الغربي على التشهير بروسيا، أن تعمد بعض الأوساط الروسية الليبرالية ومنظمات حقوق الإنسان إلى تنظيم تظاهرة في موسكو ضمت مئات الأشخاص الذين استنكروا الإجراءات المتخذة ضد جورجيا، ورفعوا شعارات اتهمت الدولة الروسية بالفاشية. وفي الوقت نفسه خرجت تظاهرة مضادة نددت، أمام السفارة الجورجية في موسكو، بنظام حكم الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي.
وفي غضون ذلك، صدرت تصريحات روسية رسمية اتهمت جورجيا بأنها قد أعدت سيناريو عسكرياً لحسم الصراع الناشب منذ أواخر الثمانينات في كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وأكد وزير الدفاع الروسي، سيرغي إيفانوف، عزم روسيا على حماية المقاطعتين المذكورتين في حال تعرض سكانهما للإبادة أو للتطهير العرقي من قبل جورجيا.
والجدير بالذكر أن سكان المقاطعتين المذكورتين يطالبون بالاستقلال عن جورجيا، وأن الحروب العديدة التي اندلعت خلال فترة التسعينات قد أجبرت السلطة المركزية في تبليسي على منح كل من المقاطعتين حكماً ذاتياً موسعاً. وكانت روسيا قد لعبت، برغم تأييدها المعلن أو الضمني لاستقلال المقاطعتين، دوراً هاماً في كبح جماح النزعة الانفصالية في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وذلك تجنباً للإحراج الذي يشكله تأييدها لانفصالهما عن جورجيا، في حين أنها ترفض المطلب الاستقلالي في الشيشان المجاورة. وفي مقابل التزام روسيا بالحد من طموحات أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا اللتين أثبتتا أكثر من مرة قدرتهما على إذلال السلطة المركزية في العاصمة الجورجية، تبليسي، سمحت جورجيا باستمرار وجود عدد من القواعد العسكرية الروسية فوق أراضيها، الأمر الذي اعتبرته موسكو ضمانة ضرورية لأمن الأقلية الروسية التي تشكل جزءاً من النسيج السكاني في جورجيا التي تعيش فيها أكثر من مئة أقلية عرقية ودينية مختلفة.
لكن المشكلات العرقية والدينية التي تغذي المطالب الانفصالية عن جورجيا، وقضية التجسس التي اتهم بها بعض الضباط الروس، لا تشكل الخلفية الوحيدة للخلافات بين موسكو وتبليسي. فالخلافات التي برزت بشكل خاص مع وصول ميخائيل ساكاشفيلي إلى الحكم، عام 2003، هي، بالإضافة إلى السخط الروسي إزاء خروج جورجيا وسائر دول الاتحاد السوفياتي السابق من فلك موسكو، مظهر من مظاهر التجاذب الاستراتيجي القائم بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، من جهة، وروسيا، من جهة ثانية, في إطار الصراع على مناطق النفوذ السوفياتي السابق، والتي تعتبرها روسيا حيوية جداً بالنسبة لأمنها واستقرارها ومصالحها.
والواقع، فوق ذلك، أن جورجيا، شأنها شأن جمهوريات البلطيق وأوكرانيا وآذربيجان، قد خطت خطوات واسعة في مجال التقارب مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، إضافة إلى المعاهدات العسكرية التي أبرمتها مع واشنطن التي تمكنت، بعيد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وبحجة مراقبة نشاطات تنظيم القاعدة في القفقاس، من النفاذ إلى جورجيا عبر إرسال مئات الجنود والخبراء العسكريين والأعتدة، ما اعتبر حينئذ مؤشراً على تضاؤل النفوذ الروسي في جورجيا.
والواقع أيضاَ أن تبليسي هي شريك أساسي في مشروع خط الأنابيب المزمع إنشاؤه عبر القفقاس لنقل النفط من بحر قزوين باتجاه تركيا، ومنها إلى الأسواق الغربية. وكلا التطورين، الوجود العسكري الأميركي وخط الأنابيب المنافس لتوجهات موسكو النفطية، إضافة إلى سياسات ساكاشفيلي المناوئة لروسيا، هي ما يشكل الخلفية الحقيقية للتوتر المتجدد بين روسيا وجورجيا.
ويصعب التنبؤ بما قد يحدث على المدى القريب، إلا أن الحصار الروسي لجورجيا والتلويح الروسي بتفجير الوضع في أوسيتا الجنوبية وأبخازيا، وربما في مناطق قفقاسية أخرى متقاربة مع واشنطن، يوحي بأن روسيا التي تمكنت من تحقيق نوع من التوازن في أوكرانيا المجاورة، بعد الإعياء الأخير الذي أصاب الثورة البرتقالية، وبعد مظاهر الجفاء التي ظهرت بين واشنطن وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، قد تراودها الآن، وفي ظل الهزائم الأميركية في الشرق الأوسط وأفغانستان، وأميركا اللاتينية والتحدي الكوري الشمالي، نزعة القيام بهجوم معاكس لاسترجاع كل أو بعض ما فقدته من نفوذ في العالم السوفياتي السابق.
والسؤال هو حول مدى استعداد الولايات المتحدة والغرب لفتح جبهة جديدة في القفقاس في ظل ما تعانيه من مآزق في أكثر من مكان في العالم؟
ع.ح
الانتقاد/ العدد1184 ـ 13 تشرين الاول/ اكتوبر 2006